25 سبتمبر 2008

العدالة الاجتماعية في الاسلام - 1



العدالة الاجتماعية في الاسلام ، كتاب مهم للعقلية المسلمة المعاصرة، العقلية التي استيقظت و لا يوجد في العالم - باتساع رقعته - تطبيق حقيقي للعدالة الاجتماعية بالمفهوم الاسلامي لهذه العدالة. وليس بعيد أن يستوي قارئ الكتاب بعد إتكاء، وأن يفتح عينيه بعد إغماض، استغرابا مما سيقرأ بين طيات هذا الكتاب! ولا أراني مبالغا فيما أقول، فسياسة الحكم و سياسة المال - محوري العدالة الاجتماعية الأبرز - قد إنحرفا عن النهج الإسلامي منذ وقت مبكر في تاريخ هذه الأمة، وتحديدا منذ استلام بني أمية للخلافة، وبقي كما هو على مر العصور ليترسب في ذهن المسلم بأن التشريع في هذه القضية منعدم أو غير صالح لواقعنا المعاصر. وهو ما سيفنده المفكر الإسلامي "سيد قطب" كما سنرى من خلال هذه القراءة المتأنية لما بين دفتي الكتاب.
.

***.
من حيث الطرح فإن الكتاب ينقسم إلى ثلاثة أقسام أساسية، القسم الأول يبين فيه المؤلِف سبب المؤلَف. و القسم الثاني يحتوي على الفصول التأصيلية لفكرة العدالة الاجتماعية من المفهوم الإسلامي لها. أما القسم الثالث فقراءة في واقع التاريخ الاسلامي، ما له وما عليه، وكيف حادت الأمة عن الجادة مع بقاء "روح الاسلام" في الضمير العام و ظهوره بين الفينة و الأخرى.

***
هـــذا الكـتـاب
***

يشن سيد قطب في الفصل الأول: الدين و المجتمع بين المسيحية و الإسلام هجوما شديدا على فئتين من الناس، الفئة الأولى تدعي بأن الاسلام هو دينها و لكنها تُقصي هذا الدين من حياتها العملية، والفئة الثانية تدعي بأن الدين مخدر للشعوب ليس إلا. فيرد سيد قطب هاته المقولتان بالدعوة إلى الرجوع إلى نشأتهما ... "ذلك أن قصة العزلة بين الدين و الدنيا لم تنبت في العالم الإسلامي، ولم يعرفها الاسلام، وقصة تخدير الدين للمشاعر لم تكن يوما وليدة هذا الدين، ولم تعرفها طبيعته".
..
فيأخذنا إلى القرون الماضية لنرى كيف نشأت المسيحية في ظل الإمبراطورية الرومانية وكيف أن المسيحية "لم تتمثل هنالك قط في نظام يهيمن على الحياة كلها، و يربط ملكوت الأرض بملكوت السماء" بسبب طبيعة حياة الرومان الذين ورثوا الحضارة الإغريقية المادية الوثنية، فلم يستسيغوا فكرة الدين و ولم يرو أصلحيته للحياة "فقالوا: إن الدين صلة ما بين العبد و الرب".
..
ثم تطورت المسيحية إلى "سلطة مقدسة تملك رقاب الناس في الدنيا و في الآخرة" ، حتى جاء عصر الإحياء في أوروبا وتقتحت الأذهان مما شكل خطرا جسيما على سلطة الكنيسة فقامت تكمم الأفواه وإحراق العلماء، "ومن هنا كانت الجفوة بين الدين و العلم، وبين الكنيسة و الفكر، في حياة الأوروبيين!"
..
ثم تطورت الحياة "و تضخمت رؤوس الأموال، و أصبح في ميدان العمل معسكران منفصلان: معسكر أصحاب رؤوس الأموال، ومعسكر العمال"، فانضمت الكنيسة إلى معسكر رأس المال، و استخدمت الدين لتخدير الطبقات الكادحة و تصدها عن الثورة لحقها. "ومن هنا كان العداء الجاهر الصريح بين الشيوعية و الدين".
..
ثم يقارن سيد قطب هذه النشأة وهذا المسار بنشأة الإسلام ومساره و طريقته، فيوضح لنا أولا كيف أن الإسلام و الحياة جزءان لا يتجزءان عن بعضهما البعض، فالإسلام "لا يعد العبادة فيه هي مجرد إقامة الشعائر، إنما هي الحياة كلها خاضعة لشريعة الله". ثم يبين بأن الإسلام "لا كهانة فيه و لا وساطة بين الخلق و الخالق" و بالتالي "فلا صراع بين علماء الدين و السلطان على رقاب العباد و لا أموالهم" كما كان الحال بين الأباطرة و البابوات.
..
وبعد هذا التبيان، فإن قطب يحدد بدقة السبب الذي من أجله كتب الكتاب، وهو الرد على كل من يدعي بأن النظام الاجتماعي في الاسلام لا يصلح إلا في العصر الذي نزل فيه القرآن. و سنرى و إياكم صدق هذا الادعاء من كذبه في الفصول القادمة..
.
***

تأصيـــل المنــــهج
*** .
قبل الولوج في طبيعة العدالة الاجتماعية يقوم سيد قطب بالحديث عن التصور الإسلامي للألوهية و الكون و الحياة و الإنسان "فليست العدالة الاجتماعية إلا فرعا من ذلك الأصل". والتصور الإسلامي الصحيح عند قطب "لا يلتمس عند ابن سينا أو ابن رشد أو الفارابي وأمثالهم ممن يطلق عليهم وصف (فلاسفة الاسلام)، ففلسفة هؤلاء إنما هي ظلال للفلسفة الإغريقية غريبة في روحها عن روح الإسلام".
.
وفي هذه المقدمة الخاطفة عن طبيعة العلاقة بين الخالق و الخلق، و طبيعة العلاقة بين الكون و الحياة و الانسان، وطبيعة العلاقة بين الانسانية مع بعضها البعض: أفرادا و جماعات و أجيال ... يبين لنا بأن العلاقة بين الخالق و الخلق هي "الارادة المباشرة التي تصدر عنها المخلوقات جميعا، فلا واسطة بينها من قوة أو مادة". و أما العلاقة التي تجمع بين الانسان و والكون و الحياة فهي علاقة تناغم و تكامل"فليس الكون عدوا للحياة ولا عدوا للإنسانية ... وليست وظيفة الأحياء أن يصارعوا الطبيعة". وأما علاقة الانسانية فهي "وحدة تفترق أجزاؤها لتجتمع، وتختلف لتتسق، وتذهب شتى المذاهب لتتعاون في النهاية بعضها مع بعض، كي تصبح صالحة لتتعاون مع الوجود الموحد".
.
أما عن طبيعة العدالة الاجتماعية في الاسلام، فهي ليست مقصورة على التساوي في الرزق، بل "إن العدل المطلق يقتضي أن تتفاوت الأرزاق". وذلك لأن الاسلام ينظر إلى العدالة "نظرة شاملة لكل جوانب الانسانية و مقوماتها، وليست مجرد عدالة اقتصادية محدودة". فهناك إذن قيم أخرى غير الاقتصاد ينظر إليها الاسلام و يحسب لها حسابها و يجعلها هي الميزان الذي توزن به العدالة بين الناس.
.
ثم ينتقل قطب إلى أسس العدالة الاجتماعية في الاسلام، وهي ثلاث، أولها: التحرر الوجداني، من عبادة أحد غير الله فلا يملك أحد على الانسان غير الله سلطان. ونتيجة هذا الايمان أن الفرد لن "يتأثر بشعور الخوف على الحياة أو الخوف على الرزق أو الخوف على المكانة ... وهو شعور خبيث يغض من إحساس الفرد بنفسه" بل لا يجوز شرعا "أن يُذل الاسترزاق رقاب الناس، فإنما رزقهم بيد الله، و بيد الله وحده!". و التحرر الوجداني يشمل كذلك التحرر من عبودية القيم الاحتماعية، كقيم المال و الجاه و الحسب و النسب. فهي قيم قد تشل حركته وقد تزرع فيه شعورا بالعبودية أو شعورا بالاستعلاء، وكلا الشعورين يختفيان عندما يعلم الفرد بأن هذه القيم ليست من وحي السماء ... بل القيمة الحقيقة هي التقوى ... ((إن أكرمكم عند الله أتقاكم)). وأخيرا فعلى الفرد أن يتحرر من شهوات النفس و لذاتها، وهذه ليست دعوة للزهد في الحياة كما يتوهم البعض فذاك "تفسير المحترفين من رجال الدين في عصور الاستبداد لتنويم الشعور العام، وكفه عن المطالبة بالعدالة الاجتماعية" وإنما "دعوة للتحرر و الانطلاق من ضعف الشهوات و الغرائز٫ ثم لا ضرر بعد ذلك من الاستمتاع بالحياة حين يملكها الانسان و لا تملكه".
.
وثاني أسس العدالة الاجتماعية في الاسلام هو: المساواة الانسانية. فقد جاء الاسلام ليقرر "وحدة الجنس البشري في المنشأ و المصير، في المحيا و الممات، في الحقوق و الواجبات، أمام القانون و أمام الله، في الدنيا و الآخرة، لا فضل إلا للعمل الصالح، ولا كرامة إلا للأتقى". وينطبق هذا الكلام على المساواة بين الجنسين، فقد كفل الاسلام للمرأة "مساواة تامة مع الرجل من حيث الجنس و الحقوق الإنسانية، ولم يقرر التفاضل إلا في بعض الملابسات المتعلقة بالاستعداد أو الدربة أو التبعة". وكذلك "فإن للجنس البشري كله كرامته، التي لا يجوز أن تستذل".
.
أما عن ثالث أسس العدالة فهو: التكافل الاجتماعي. "فللمجتمع مصلحة عليا لا بد أن تنتهي عندها حرية الأفراد" و الاسلام يقرر "مبدأ التكافل في كل صوره و أشكاله. فهناك التمافل بين الفرد و ذاته، وبين الفرد و أسرته القريبة، وبين الفرد و الجماعة، وبين الأمة والأمم، وبين الجيل و الأجيال المتعاقبة أيضا".
.
و بعد هذه الاسس فإن قطب ينقلنا إلى فصل جديد للحديث عن وسائل العدالة الاجتماعية في الاسلام. وهي وسيلتين أساسيتين: أولهما الضمير، فجاء الاسلام يهذب هذا الضمير و يغذيه و يوجهه إلى الغايات الأسمى للوجود. وثانيهما التشريع، الذي من خلاله ينتظم أمر المجتمع. وضرب لنا مثلا في الزكاة للتدليل على كيفية استخدام الاسلام لهاتين الوسيلتين للوصول إلى العدالة الاجتماعية الحقة.
.
***
سياسة الحكم و سياسة المال في الاسلام
***
بعد تأصيل المنهج، يأتي الحديث عن سياسة الحكم و سياسة المال في الإسلام...
.
أما عن سياسة الحكم، فبعد التقرير على أن الحاكمية لله وحده، ولا أحد سواه، ومن ثم التقرير بأنه المشرع وحده، دون سواه: فإن الحكم في الاسلام بعد هذا قائم على الأسس التالية: "العدل من الحكام، والطاعة من المحكومين، والشورى بين الحاكم و المحكوم". و أفرد قطب لكل واحد من هذه الأسس بضع صفحات، و قد ذكر فيما ذكره بأن "ليس هناك مبرر لأن يفهم أحد أن الحكم في الإسلام يحتاج إلى أكثر من تنفيذ الشريعة الإسلامية، بعد إفراد الله سبحانه بحق الحاكمية"، وبرهن على أن ليس للحاكم حق زائد في "الحدود، ولا في الأموال، وليس لأهله حق فيها غير ما لرجل من عامة المسلمين" وهو كلام مهم، خاصة حينما نرى ما نراه من بذخ و سوء تصريف للأموال من قبل حكامنا المعاصرين، وكأن المال مالهم لا مال الله الذي استُخلفوا فيه و حُملوا أمانته... و لكن ليست هذه هي الإشكالية ... المصيبة هي أن ينجح هؤلاء في تخدير العامة وإيهامهم بأن هذا هو حقهم المشروع ... وهو في الإسلام ليس كذلك!
.
وأما عن سياسة المال، فقد شرع الاسلام حق المال على الفرد وهو لا يتجاوز الزكاة عندما تكون الدولة الإسلامية في غنى عن غيره، "ثم جعل للإمام الحق في أن يأخذ بعد الزكاة ما يمنع به الضرر، و يرفع به الحرج، ويصون به المصلحة لجماعة المسلمين، وهو حق كحق الزكاة، عند الحاجة إليه". ومن جانب آخر فقد وجه الاسلام النفس إلى بذل ما هو أكثر من الزكاة "فقد حبب إلى الناس أن ينسلخوا من كل مالهم، و ينفقوه كله في سبيل الله". وأسهب قطب في الحديث عن الملكية الفردية و فريضة الزكاة، وأخيرا ختم الفصل بالحديث عن الفرائض في المال التي تجب غير الزكاة.
.
***
.
وهكذا ينتهي التأصيل للعدالة الإجتماعية من منظورها الإسلامي، و ينتهي الحديث عن سياستي الحكم و المال في الإسلام ... وننتقل بعدها إلى قراءة للواقع التاريخي، ومدى اقتراب الأمة و ابتعادها عن النهج والشرع الذي منَّ الله لها به!
.
وحتى لا يطول الموضوع كثيرا فيصيب القارئ بالسآمة و الملل، وحتى أعطي ما تبقى من الكتاب حقه من الحديث، فقد اخترت أن أفرد له رسالة منفصلة عسى أن أوفق في إكمالها قبل العيد.




هناك 6 تعليقات:

  1. قرأت شطر ما كتب في الأعلى، واستمتعتُ بذلك.
    سوف أكمل القراءة.
    شكرًا يا سعيد.

    ردحذف
  2. السلام عليك أخي سعيد

    كتاب رائع، جزاك الله خيرا على أن ذكرتنا به

    وبه من الأصول والأسس ما يلزم كل مؤمن فطن، خاصة في هذا العصر الذي انتشر فيه الملاحدة!

    في انتظار الجزء الثاني ونظرة سيد قطب إلى حكم بني أمية، والتي قدست كثيرا من قبل البعض حتى غطوا على روح الإسلام في الحكم!

    وأرجوا منك أن تضيف فقرة صغيرة عن العدالة الإسلامية في تاريخ أئمة عمان وفق منظور المنهج الذي أسسه سيد قطب.

    أخوك،
    حمد العزري
    www.halazri2006.jeeran.com

    ردحذف
  3. حمد و حمد،

    أشكر لكما المتابعة و التعليق.

    أما عن الواقع التاريخي فأفضل أن أحصره في مادة الكتاب، ولكن لعلي أعود إلى هذه الأسس في قراءات قادمة متعلقة بأئمة عمان ...

    ردحذف
  4. إن مجرد ذكر اسم سيد قطب يثير الرعب في قلوب الكثيرين الذين يرون فيه معرياً و فاضحاً لهم ، إن قطب رحمه الله يسمي الأمور بمسياتها و لا يهادن و لو مقدار ذرة.

    للأسف تمت إسائة فهم بعض عباراته التي قال فيها أن مجتمعاتنا مجتمعات جاهلية و تم بواسطتها تكفير المجتمع من قبل البعض والذين قاموا بممارسات خاطئة عنيفة تم إستغلالها من قبل السلطات و الطواغيت.

    إن قطب لا يكفر أحداً بعينه كما ذكر من عاشره و لا يسمح لنفسه بذلك فهذا ليس من شأنه و لكنه يصف المجتمعات بصفته داعية لا قاضياً.

    إن كانت العظمة متمثلة في شخص فلن تكون في العصور المتأخرة متمثلة إلا في قطب ، ما يزيد على عشر سنوات من السجن و التعذيب و لكنه يأبى أن يهادن الطاغوت و لو بكلمة ، كلمة كان من الممكن أن تنقذ حياته و لكنه أبى ذلك.

    السلام عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حياً.

    ردحذف
  5. إن مجرد ذكر اسم سيد قطب يثير الرعب في قلوب الكثيرين الذين يرون فيه معرياً و فاضحاً لهم ، إن قطب رحمه الله يسمي الأمور بمسياتها و لا يهادن و لو مقدار ذرة.

    للأسف تمت إسائة فهم بعض عباراته التي قال فيها أن مجتمعاتنا مجتمعات جاهلية و تم بواسطتها تكفير المجتمع من قبل البعض والذين قاموا بممارسات خاطئة عنيفة تم إستغلالها من قبل السلطات و الطواغيت.

    إن قطب لا يكفر أحداً بعينه كما ذكر من عاشره و لا يسمح لنفسه بذلك فهذا ليس من شأنه و لكنه يصف المجتمعات بصفته داعية لا قاضياً.

    إن كانت العظمة متمثلة في شخص فلن تكون في العصور المتأخرة متمثلة إلا في قطب ، ما يزيد على عشر سنوات من السجن و التعذيب و لكنه يأبى أن يهادن الطاغوت و لو بكلمة ، كلمة كان من الممكن أن تنقذ حياته و لكنه أبى ذلك.

    السلام عليه يوم ولد و يوم يموت و يوم يبعث حياً.

    ردحذف
  6. أخي الكريم،
    أتفق معك تماما فيما جئت به. سيد قطب أسيء فهمه، و ربما أراد البعض تشويه ما جاء به برسم صورة غير حقيقية عن قطب.

    يكفي ذلك الجبل الأشم أنه لم يتزحزح قيد أنملة عن ما يؤمن به. وم يركن إلى الظلمة كما فعل غيره.

    شكرا على مداخلتك!

    ردحذف