27 نوفمبر 2009

قصة طائر لم يحلق بعيدا



تعود قصة هذا الطائر إلى بضعة أيام مضت. كان حينها يتابع رتابة يومه المعتاد، يقتات كنز الأرض دون كلل، فهذا ما خلق لأجله. لم يكن يعرف الطائر غير هذه الأرض، ينقب فيها بمنقاره غير آبه بجمال اللا شيء من حوله. كانت السماء لا تعنيه في شيء، وما كان الشروق أو الغروب يستوقفه للتأمل. بل حتى الأفق لا يذكر أنه استشعر عذوبة منظره يوما. كل هذا حتى بضعة أيام مضت.

كان الطائر يقوم بعمله المعتاد عندما أطلت عليه عصفورة لا يدري من أين. أطلت على ضفافه بخجل، تقدم قدما وتأخر أخرى، غير أن زغردتها - المتسائلة - كانت تصل مسامعه. لم يلتفت إليها، فقد كان منهمكا في عمله الدؤوب، ولكنه أشار إليها بجناحيه يرشدها الطريق الذي يعرف، فذهبت حيث أشار وأكمل هو عمله.

جاء المساء وانتهى الطائر من عمله. اتجه بخطى أنهكها التعب إلى حيث ينام دوما فلم يكن هناك شيء آخر يفعله. فجأة أفاق من نومه، تذكر تلك العصفورة التي مرت عليه في صباحه. أصابه الفضول وقرر أنه في اليوم التالي سيتبع خطاها، فقط للتأكد بأنها إلى الوجهة الصحيحة ذهبت. أغمض عينه وتذكر كم كان صوتها جميلا. ارتسمت على وجهه شبح ابتسامة قبل أن يخلد في نوم عميق.

استيقظ باكرا واتجه حيث أشار للعصفورة أن تتجه - فقط ليتأكد - ثم يعود لما خلق من أجله. وصل دون أن تنتبه فقد كانت تغرد ترنيمتها الصباحية. كلماتها هزت كيانه. فبقي حيث هو ينصت إليها غير مصدق حتى انتصف اليوم. قرر أن يعود للعمل ويرجع إليها في المساء.

لما عاد مساء ذلك اليوم رأته. بقي صامتا وبدأت هي في الغناء. كانت هذه المرة تغني من أجله، من أجله هو فقط. أصابه نوع من السكر لعذوبة صوتها وحلو كلامها فلم يبرح مكانه حتى جاء الصباح، وقت العمل، فاستفاق الطائر من سكره وذهب لينقب الأرض مرة أخرى وصوت العصفورة لما يغادر مخيلته.

وهكذا تغيرت تلك الرتابة المملة التي لم يكن يعرف سواها. فصار يقضي الصباح في عمله ويهرول في المساء ليسمع مزامير عصفورة لا يعلم عنها شيئا. وبقي الأمر هكذا يومين، طائرنا لا يعرف طعم النوم، يقضي نهاره في العمل ومساءه في الغزل، حتى جاء اليوم الثالث بمفاجأة.

قررت العصفورة أن تتطير، أن تحلق بعيدا لتختبره. ارتبك الطائر، فهو لم يستخدم جناحيه منذ أمد ولا يذكر كيف يضرب بهما الهواء ليطير. قرر المحاولة، فقد كان صوتها أعذب من أن يدعها تذهب دون أن يحاول. فرد جناحاه وقبضهما إليه وارتفع عن الأرض. لم يصدق عيناه، كان الأمر غريبا، فهو لم يعتد أن ينظر إلى الأرض من علي. ازداد حماسه واستمر يضرب الهواء بجناحيه ليرتفع أكثر.

كان يقترب من عصفورته، ولكن ليس بسرعة كافية. فقد كانت أسرع وأقوى وأخف. استمر في المحاولة، فقد اعتادها ولم يقوى على فكرة الفراق، ولكن المسافة أخذت في الاتساع. كان قد أنهكه تعب السهر ونصب العمل، كما أن مخاوفه لم تسعفه: ماذا إذا لم يستطع اللحاق بعنفوانها؟ ماذا إذا خذلته قواه قبل أن يصل؟ نفض هذه الأفكار كما كان ينفض جناحيه وقرر الاستمرار في المحاولة.

فجأة، توقف الجناحين ولم يطاوعاه. نظر إليهما بحسرة، فقد كانت مخاوفه تتحقق. نسي للحظة بأنه لا يعرف الطيران. ونسي أن العصفورة كانت تبحث عمن هو أفضل منه، عمن هو أقوى وأكثر شبابا، عمن كان يستطيع مجاراتها في الطيران. هوى طائرنا كصخرة حتى ارتطم بالأرض. وحينها اكتشف كم كان مغفلا.
**
ملاحظة: الصورة التقطت ذات صباح ... في مكتبي.

25 نوفمبر 2009

ذوبان !






منذ متى يمكن لكلمات أن تؤثر في الانسان فتمسخه مخلوقا آخر في طرفة عين؟!


ثلاثة أيام وأنا لست أنا الذي أعرفه ... ولا أصدق بأنني أقول هذا الكلام!


لا بد أن هناك مس من السحر أو الجنون أصابني!



عذرا أيها القراء، ولكنني حقا أريد البوح بما عندي بعيدا عن جمود الفكر ومعادلات السياسة ومجادلات الثقافة، أريد سكب ما يعتريني دون أن أمعن التفكير في قواعد الكتابة أو في منطقية الحديث. فما أشعر به لا يمت للمنطق بصلة. كل ما آمله أن لا يفسر كلامي بغير ما يحتمل. ولإن كثرت التكهنات حول ما سأقول فلن أملك سوى جواب واحد: قلمها أحاطني بسحره!



قشعريرة ارتباك تصيبني عندما أقبل على صفحاتها، ولا تذهب إلا بشرب ذلك الزلال من كلامها. فإذا ما وقعت عيناي على ما سطرت أناملها أصاب برعشة تتناغم مع ما في قلبي من خفقان ... أصير وكأنني عاشق مراهق يسمع كلمات غزل تفقده صوابه. غير أنه لا غزل هنا ولا تغزل، فقط كلمات تدهشني وتاملات تسلب عقلي!


أصرف بصري - الذي لا أستطياع غضه عن حلو كلامها - لأتمم مشاغل الحياة الضرورية، فلا أجدني إلا والشوق يملأ جوانحي إلى جديد يراعها الأخّاذ، فأعود مهرولا كطفل فقد أمه فيقفل راكضا إليها مشتاقا لدفئها وحنانها وحضنها.



غريب هو هذا الشعور حقا!



فهي لا تكتب رواية، ولا تحكي قصة، ولا تنظم شعرا - لا شيء من هذا القبيل - ولكنني لا أذكر أنني أحببت كلمات كما أحببت كلماتها. لأول مرة أستلذ الكلام لذاته، وأجد متعة في تفكيكه وتركيبه وإسقاطه على الواقع من حولي. غريب هذا بالنسبة لي، فأنا لا أهتم عادة باللغة قدر ما أهتم بالحدث والمعلومة التي أجنيها من السياق، فما الذي قلبني ؟!


**


سيدتي ... يا صاحبة القلم الجميل،


أعيريني شيئا من سمعك الآن فقد انتهيت من المقدمات وسأشرع في المديح ...


لا تحبين المديح؟!


حسنا سأعرض عنه، فكلماتك في كل الأحوال أكبر من عبارات المديح التي أحفظها، بل هي أجل من مفردات الثناء التي سطرها الخليل في عينه.
أعرضي عن مدونتي إن كنت عليها الآن، فهناك ما عليك تسطيره ... سطريه لك ولمن تشائين، لا يهم، يكفي أنه كلامك، ويكفيني أنني أرتوي منه وأقتات به بكرة وعشيا!


**


(ملاحظة،


سيقول قائل: أنت عاشق!


- نعم، عشقت كلامها،والإنسان يعشق المطر.


- وهي؟


- هي سحابة غمرتني بالماء!)

19 نوفمبر 2009

السلطة في الإسلام (ج1) - 1


" ... لعبت السلطة – بشكل مباشر في بعض الأحيان – دورا جبروتيا طاغيا في تشكيل العقل، لا أقول العقل السياسي الإسلامي فحسب، بل العقل الجمعي الإسلامي العام. وفي هذا الإطار يمكن النظر إلى ما يقدمه هذا البحث من أطروحات حول إشكالية السلطة، هذه الإشكالية التي تكمن في رأينا خلف معظم المعضلات التي تثخن جسد الحضارة الإسلامية بالجراح، على مستوى العقيدة و الفكر و العلم، والسياسة و الاقتصاد و الاجتماع، بل وعلى مستوى السيكولوجيا واللغة و الفن و الجمال"

كتاب السلطة في الإسلام للمستشار عبدالجواد ياسين كتاب دسم في مادته غني في محتواه معقد في تراكيبه، لم يقصر الكاتب فيه الحديث عن السلطة فحسب ولكنه ولج إلى العقل الفقهي السلفي - العقل المكوِّن لفلسفة السلطة كما نعرفها و نراها اليوم، بل العقل المكوِّن للعقل الإسلامي الجمعي إذا صح التعبير - وقدم إليه بكل جرأة ناقدا ومحللا.

يقدم المستشار قراءة نقدية تدعوا إلى وقفات جدية ومراجعة شاملة للمنهج و التصور الذي عمل به المسلمون في علم الأصول، فيأخذنا إلى مكامن فكرية جديدة بهدف إعادة تشكيل و تصحيح بعض الإشكالات الأصولية - كما يرى - متخذا تصحيح بعض المصطلحات و المفاهيم مدخلا لذلك، فيعيد تعريف مصطلحات كـ "الإسلام" و "السلف" و "النَّص" و "الإلزام" و "السنة". ثم يقدم مراجعة شاملة لتصورات خاطئة استقر عليها عقل المسلم في القرون العشرة الأخيرة بسبب السلطة أو نتاج قهرها.

لا شك بأن قضية السلطة من القضايا المحورية عند البشر بشكل عام، ولكنها تأخذ طابعا وجدانيا عند المسلمين بسبب ارتباط بعض الآرآء العقدية بها ارتباطا عضويا تكامليا، ولأنها كانت محور الافتراق المذهبي وانقسام الأمة انقساما نزفت بسببه كثيرا من الدماء.

وإذ يحق لي اقتباس جملة و أدعي بأنها ملخص المنهج الذي يطرحه الكاتب، فستكون هذه الجملة: "لقد قرأنا بعض الأحاديث في كتب السنة الصرف فلم نفهمها، فلما قرأناها في كتب التاريخ فهمناها، كما قرأنا أحاديث في كتب السنة الصرف فقبلناها، ثم قرأناها في كتب التاريخ فلم نقبلها".

كان قرار الكتابة حول الكتاب ليس سهلا، لخشيتي بأن تكون قراءتي مخلة لمادة الكتاب ، ولكني عقدت العزم على أمل تسليط الضوء فقط على ما جاء فيه دون أن أعد القارئ بأنه سيجد في هذه القراءة السريعة محتوى الكتاب بأكمله، وإن كان هناك خلل في ترابط الأفكار أو وضوحها فذلك خطأ أرجعه إلى قلمي.

فما هي السلطة إذن؟ وما دخل التاريخ بها؟ وما دخل التاريخ بالنص؟ وما هو "قانون النص" الذي يزعم الكاتب بأنه القانون الذي غفل عنه علماء الأصول على مر التاريخ؟

دعونا نقرأ سويا ...

* * *

المقدمة

عندما يتكلم المستشار عبدالجواد ياسين عن السلطة، فهو يتكلم عن الجانب "الشكلي" منها لا الجانب الموضوعي، "إذ ليست القضية في الحقيقة، ولم تكن قط، هي أن يحكم الإسلام أو لا يحكم، فذلك تحصيل حاصل لحقائق الإسلام الثابتة في النص والتاريخ على السواء". ولأن الكلام عن السلطة منطلق من المنظار الإسلامي له، أي من خلال نصوص الإسلام التشريعية، فإن المستشار يقدم تصوره للمنهج الذي يجب اتباعه لاستخراج "حكم الإسلام" في شكل السلطة.

"هل في الإسلام أجكام ملزمة، تعين شكل الحكومة، أو تشير إلى هيكل النظام السياسي في الدولة؟" هذا هو السؤال الذي منه يلج المستشار إلى كتابه. ويبدأ بتوضيح ثلاثة مفاهيم أساسية لكي "ينضبط على نحو محدد": مفهوم الإسلام، ومفهوم الإلزام، ومفهوم الشكل.
  • مفهوم الإسلام: إسلام النص وليس إسلام التاريخ. أي الإسلام النابع من الكتاب و السنة الصحيحة الثابتة، لا ما شرعه التاريخ بسلطته (ستتضح هذه الفكرة لاحقا).
  • مفهوم الإلزام: إن كان الاسلام هو "النص" أي الكتاب و السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله، فإن الإلزام لا يكون إلا على ما أتى فيه نص. وأما ما لم يأت فيه نص فالسكوت عنه نصا كذلك. أي أن تعمد سكوت الشارع عن قضية معينة يعني أنها تقع في دائرة المباح وليس من الإنصاف وضعها تحت دلالات أو تصنيفات كالندب أو الكراهة أو ما سواهما، لأن "السلف" هو واضع هذه التصنيفات لا النص، والسلف ليس هو المشرع بل النص.
    وللتدليل على هذه الفكرة فإن المستشار يضع أمامنا مسألة عزل الإمام "للفسق أو للظلم أو للفساد"، وكيف أن تحريم الخروج عليهم أو عزلهم جاء من منطلق " أن السلف كانوا ينقادون لهم، ويقيمون الجمع و الأعياد بإذنهم ولا يرون الخروج عليهم"، ولا يوجد بطبيعة الحال "نص" يؤيد هذا الحكم ولكنه جاء نتيجة الإذعان لفعل التاريخ – أو السلف !
  • مفهوم الشكل: "الخلافة – كمحتوى موضوعي – وبغض النظر عن إلزامية الإسم، هي فريضة لازمة بنصوص الإسلام. أما الخلافة – كنسق شكلي – فلا وجود لها في نصوص الإسلام. ولا وجود لها كذلك في تاريخه. لأن الذي أفرزه التاريخ في الحقيقة لم يكن نسقا شكليا واحدا و مضطردا، بل أنساقا متعددة ومختلفة في الجملة و التفصيل".


ثم يختم المستشار هذه المقدمة بتوضيح "أن السلطة لم تتشكل من خلال النص، وإنما تشكلت من خلال التاريخ. ليس ذلك فحسب بل إن تاريخ السلطة – من خلال "التنصيص السياسي" – قد لعب دورا جزئيا في تشكيل النص"! ولكي يستطيع تجاوز هذه الإشكالية – إشكالية التنصيص السياسي – كان منهج الكاتب هو قراءة السلطة في النص على ضوء التاريخ، ثم قراءة السلطة في التاريخ على ضوء النص. وبهذا المنهج فإن ما لم يفهم من النص المقروء في كتب السنة الصرف يصبح مفهوما عندما يقرأ في سياق كتب التاريخ.

يتبع...

10 أكتوبر 2009

فلسطين ... نواة الثورة العربية

لم يتوقع أحد بأن يتطور الفساد الأخلاقي والمنهجي والمالي للسلطة الفلسطينية الحالية بقيادة أبو مازن إلى درجة من انعدام الضمير بحيث تستبيح وطنا بأكمله. إثنان وستون عاما منذ بداية النضال والفداء والتضحية للقضية الفلسطينية ولم تكن هناك فرصة أقرب من هذه لإدانة العدو الصهيوني في المحافل الدولية، ثم يأتي أبو مازن ويقرر سحب تقرير جولدستون من طاولة مجلس حقوق الإنسان بجرة قلم وفاكس مرسل إلى مندوبه في الأمم المتحدة، متنكرا بذلك لأرواح الآلاف من الشهداء الذين لم ينصفهم التاريخ ولم تنصفهم المحافل الدولية إلا في هذه المرة اليتيمة. هذه الفرصة أُجهضت حماية لقيادات العدو الصهيوني بيد مَن مِن المفترض أنه أمين على القضية الفلسطينية.

ليس الهدف من هذه المقالة الاستطراد في ذكر الخسارة التي مني بها الشعب الفلسطيني بسحب التقرير وكم من الضرر ألحق هذا بقضيته سواء على المستوى الشعبي أو على المستوى الرسمي، ولكنه لإحالة النظر إلى ما يمكن للفساد أن يفعله عندما تتقاطع المصالح الشخصية والعامة. فالسيد محمود عباس كان بين خيارين، أن يسلم التقرير ويتحمل تبعات نشر فضيحة تواطئه مع الإسرائيليين في حرب غزة، أو أن يسحبه ويضيع على آلآف الشهداء من النساء والأطفال استرداد حقوقهم بمحاسبة المجرمين ووضعهم تحت المساءلة القانونية الرسمية. والخيار لم يكن صعبا كما يبدو!

النهج العام لحكام الدول العربية ليس أقل سوءا من نهج السيد محمود عباس. فالبقاء على سدة الحكم أطول فترة ممكنة لم يبق حلما فقط، ولكنه واقعا معاشا يتمتع به الحكام يوما وراء الآخر وليست هناك تحديات حقيقية تواجههم. فأمريكا - حمامة الديموقراطية - قد عدلت عن هذا الخطاب بعدما رأت نتائجه في فلسطين وقبله في الانتخابات البرلمانية في مصر ، بل وطمأنت الحكام بعيد الحرب الإسرائيلية على لبنان بأنها - والكلام لكونداليزا رايس: تتفهم بطئ التحول الديموقراطي في مصر! ولم تبخل هيلاري كلينتون بتصريح شبيه للتأكيد على أن الإدارة الأمريكية ما باتت مهتمة بالتغيير الديموقراطي كما كانت في السابق. ومن جانب آخر فإن حركات التحرر العربية ماتت واقعيا وأيديلوجيا، فليست هناك قوى حقيقية تطالب بالتغيير والإصلاح. بل حتى التحركات التحررية أصبحت مستهجنة في الوعي العام، وما الاستنكار العربي العام لمطالبات جنوب اليمن بالانفصال - بسبب الفساد الذي لحقهم - إلا دليل قاطع على أن الجو العام هو جو الرضوخ التام والرضى بالأمر الواقع والخضوع بانكسار أمام الرأي الفقهي القائل بوجوب طاعة ولي الأمر ... وإن كان ظالما!

نعود إلى محمود عباس والشعور العام بالاحتقان والغضب العارم الذي أجج الشارع العربي عموما والفلسطيني خصوصا ضد السلطة الفلسطينية. فالحقيقة لم تكن أوضح مما هي عليه اليوم: الفساد ليس له آخر والسكوت عنه جرّأه على الوطن وحقوق أحيائه وأمواته، الخط الأحمر الذي لم يفشل يوما في تحريك الشعوب. الشرعية التي اختاراها السيد محمود عباس لا تختلف كثيرا على الشرعية التي يستند عليها معظم حكام الدول العربية: القوى الخارجية والزمرة المحيطة المستفيدة من وضع الفساد. ولذلك فهي في جوهرها لا تختلف كثيرا عن السيد محمود عباس الذي انكشف على الملأ، وإلا فما الفرق بينه وبين من رهن أمر موارده و ثرواته لرغبات الإدارات الأمريكية أو البريطانية المتعاقبة؟ وما الفرق بينه وبين من باع للصهاينة ماء النيل سرا؟ أو ذاك الذي أباح أبنائه لصواريخ وقاذفات الترسانة العسكرية الأمريكية؟!

الفساد لا يعني الاختلاس فقط، ولكنه استعباد العباد والاستبداد في الرأي ويكون حاصله هدر حقوق المواطن وضياع الوطن خطوة بعد أخرى ويوما بعد آخر. ليست هذه أولى أخطاء السيد محمود عباس ولا ينبغي لنا أن نتوهم بأنها ستكون آخرها، فما هذه إلا نتيجة طبيعية للمسار الذي اتخذته سلطته الدايتونية والتي ستتبعها خطوات أخطر على القضية الفلسطينية.، هذا ما لم يقف أبناء فلسطين الأحرار في وجهه كما فعل أبناء غزة الذين لم يرضوا الضيم والظلم فثاروا على تلك السلطة فحصدوا استتباب الأمن والاستقلال بالقرار في غزة، والمفارقة الغريبة العجيبة هي أنه في حين سحبت السلطة التقرير بكل ذل كانت حماس تستقبل ٢٠ أسيرة مقابل تسجيل قصير لجلعاد شاليط، فشتان بين الإثنين.

الأمر مع الشعوب العربية لا يختلف كثيرا وخياراتها محصورة، فهي إن صمتت اليوم فستتجرع غدا ما تتجرعه فلسطين وأهلها من ظلم ومشاعر الحنق والمرارة والغضب. وإن هي ثارت فلربما تجني ما جنته الشعوب الأخرى في ثوراتها المختلفة من تحرير للإنسان وارتقاء بالوطن. فهل تفيق هذه الشعوب على حلم الثورة؟ وهل ستكون فلسطين ومثالي غزة والضفة نواة للثورة العربية المرتقبة؟ ...ربما!

12 سبتمبر 2009

دستور العقل


أحد محاور الخلاف في الساحة الإباضية اليوم هو العقل وضوابط استخدامه. وبغض النظر عن التفسيرات المختلفة لماهية العقل وكيف يمكن كبح جماحه دون إقصائه أو إطلاقه دون انفلات لجامه، فإنني موقن بأن هناك ما يمكن اعتباره دستورا يحل الإشكال و يوجه الأنظار والنقد إلى نتاج العقل لا إلى كيفية استخدامه ونتجاوز بذلك جدلية العقل لننتقل إلى "الفكرة" ننقدها في ذاتها ونرى مدى توافقها لقواعد الدين وأصوله.

وقعت صدفة على كلام لسماحة الشيخ في تقريظ له لأحد الكتب، كان قد كتبه قبل أكثر من عشرين عاما، أي قبل أن يكون للخلاف الحالي أثر في حكمه على الأمور. فقيمته - في رأيي - أنه كلام أصيل، أي أنه قيل توضيحا لمنهج لا ردا على شبهة، ولا يستطيع أحد اعتباره ردة فعل "غير متوازنة"، بل هو نهج واضح المعالم محكم البنيان سار عليه أسلافنا الأخيار، وهو قائم على أسس قرآنية متينة وقواعد أصولية ثابتة.

أقول بأن كلامه يمكن أن يعتبر دستورا لما فيه من اختصار و ما يحويه من منطق، ولأنه استقاء مباشر من منهل النصوص الشرعية، وهو - قبل كل شيء - التزاما بنهج ومنهج الأوائل. فليتنا نعيه ونلتزم به عملا وفكرا. وأتمنى أن يكون سببا في تجاوز الإشكالية ومنطلقا لإعمال العقل فيما يهم الأمة ويشغل بالها لاستخراجها مما هي فيه ودفعها نحو الأمام فكريا واجتماعيا واقتصاديا وفلسفيا.

يقول سماحة الشيخ:

"وإن من يمعن نظره في التراث الإباضي الفكري - متجردا عن العوامل النفسية، والمؤثرات الوراثية - يدرك كل الإدراك أن الإباضية أكثر فئات هذه الأمة اعتدالا، وأسلمها فكرا، وأقومها طريقا، وأصحها نظرا، وأصفاها موردا ومصدرا.

فهم لم يُلقوا بالعقل في زوايا الإهمال لأن الله خاطب بوحيه أولى الألباب ونعى على قوم لا يستخدمون عقولهم في فهم الحق ودرك الحقيقة، ونادى عليهم بالخذلان، وسجل عليهم بالخسران، كما هو واضح في كثير من آيات الفرقان. غير أنهم لم يرفعوا العقل فوق مستواه، ولم يعطوه أكثر مما يستحق، فلم يؤثروه على النص، وإنما جعلوه وسيلة من وسائل فهم مراده، وتعيين مقاصده، قطعا أو ظنا، وهم في كل ذلك ينطلقون من فهم عميق للغة النص التي تستخدم تارة في حقيقتها وأخرى في مجازها حسبما تقتضيه أصولها مراعين في ذلك جميع القرائن والأحوال التي تعين على تشخيص المراد".

انتهى كلام الشيخ وكلامه واضح لا يحتاج إلى تأويل، فالمقصود بـ"النص" - أي القرآن الكريم والسنة الصحيحة الثابتة - واضح، والهدف من فهم مراد "النص" وتعيين مقاصده أيضا واضح. فليتنا نعض على هذا الدستور بالنواجذ وننطلق منه لاستكشاف حِكَم القرآن ومكنونات الأرض و أسرار السماء بدلا من البحث عن الزلات، ولوم هذا وذاك، ونعت بعضنا البعض بما لا يرضي الله، ولا يأتي سوى بالضغائن، ويؤدي إلى تشتيت و تشويش أولوياتنا الفكرية و الدعوية و الخطابية، فتزل أقدامنا بعد ثبوتها ويذهب ريحنا ويندرس في النهاية ذكرنا.

أخيرا أقول، أن أستخدم عقلي ثم أكتشف خطئي، خير لي من أن لا أستخدمه على الإطلاق!

11 سبتمبر 2009

رواية شيكاجو


لا أذكر بأنني قرات رواية ذات أربع نهايات كلها مؤسفة ولا تحمل بارقة أمل أو سعادة فيها اللهم إلا هذه الرواية ... رواية "شيكاجو" لعلاء الأسواني.

تتحدث الرواية عن بعض المفارقات التي نجدها في دواخل الناس، الطلبة - عمود المجتمع - الذين يدرسون في الخارج تحديدا. صوَّرهم علاء الأسواني بعدستين. الأولى تحكي تصرفاتهم اليومية الظاهرة للكل، و الثانية حقيقة ما يفكرون به أو ما يقومون به في الخفاء أو من خلف ستار دون تأنيب من ضمير ولا شعور بالخجل. بدا وكأن الرسالة التي أراد إيصالها الأسواني من خلال أحداث الرواية هي أن الكل - مهما بدا نقاؤه- يحمل في طيات نفسه ما يخالف ظاهره، ويتناقض معه، وبالتالي فإن كل من يدعي طهارة المجتمع هو إنسان واهم ولا يرى الواقع على حقيقته!

رأينا أربع شخصيات رئيسية في الرواية لكل منهم قصة منفصلة إلى درجة أنك تشعر بأنك تقرأ أربع روايات مختلفة لا رواية واحدة، و لكن قصصهم تتداخل في لحظة ما في الرواية. الشخصية الأولى تمثلت في طالبة جاءت من الريف المصري المحافظ ولا تعرف شيئا غير الحشمة و الستر و الحفاظ على الشرف، فكيف انتهى بها الحال في آخر الرواية؟! وطالب يصلي صلواته بكل خشوع ولكنه أيضا يستمتع بما يستمتع به الرجال بعد الفراغ من صلواته! و شيخ في الظاهر، ولكن رجل مخابرات لئيم في الواقع، يبيع كل شيء لمعبوده الذي لا يعبد سواه: المال ... والزوجة! وزوجة تفاجأ بزوج لا يحمل في قلبه ذرة إيمان أو حياء أو رجولة تريد الطلاق منه ولكن لا تستطيع لاعتبارات عائلية و اجتماعية!

رواية أختلف في واقعيتها، أي أنني لا أؤمن بأنها تمثل أي واقع، وأختلف أيضا في أسلوب طرحها للقضايا التي أراد الكاتب إبرازها. ولكن لا يعني هذا أنها غير ممتعة، فأحداثها تجذبك إلى صفحاتها الأخيرة وتجعلك - عندها - إما ممتعضا أو متسائلا!

29 يونيو 2009

رسالة من كسول تائب!




إلى كل من يتابع مدونتي، ولو كان شخصا واحدا، أعتذر إليك كسلي في تجديد محتوايات هذه المدونة...


نعم هناك ظروف استثنائية أمر بها، ولكنني لا أجدها سببا حقيقيا لامتناعي عن الذهاب إلى مكتبتي فأقتني منها كتابا لأكتب حوله قراءة مختصرة تنفعني قبل أن تنفعك أيها القارئ الكريم. لا، لن أعتذر بأعذار واهية كما كنت أفعل سابقا لأدرأ عن نفسي تهمة التقصير، فقد تجاوزت تلك المرحلة، ولم أجدها سوى عنصرا من عناصر الفشل بامتياز لأنها كانت توهمني دوما بأن فشلي سببه الآخرون أو الظروف أو الحظ، فلا أتعلم من خطئي سوى أنني غير مخطئ!


أخي القارئ ... أسمعت قصة الحمار الذي كان يدور حول الرحى لطحن القمح؟


كان الحمار، صاحب القصة، كسولا جدا إلى درجة أن الوخز بالعصى كانت الطريقة الوحيدة لدفعه للعمل، فعمد صاحبه إلى تعليق جرس حول رقبته ليتنبه له عندما يتوقف عن الدوران، فإذا لم يسمع قرع الجرس قام ووخز الحمار في مؤخرته ليستمر في العمل! تقول القصة بأن الحمار - بذكائه - تغلب على سيده، فكان يحرك رأسه دون جسده ليقرع الجرس فيظن الفلاح بأنه منهمك في طحن القمح فيتركه لشأنه.


هكذا تُحكى القصة في الغالب، تمجيدا لذكاء الحمار و ضحكا على غباء الفلاح، والحكمة الحقيقية من وراءها دائما تترك جانبا ... فما أراده مؤلف القصة أن ينبه الكسالى من الناس بأنهم بأعذارهم التي يقرعونها دائما سيتخلصوا من مسؤولياتهم ولكنهم لن يتخلصوا أبدا من حموريتهم!


أعود فأقول بأن ظروفنا لا يمكن أن تصبح أفضل مع تقادم الأيام، لأن منطق الحياة يقول بأنك كلما تقدمت في السن كلما زادت مسؤولياتك، ومهما زادت مسؤولياتك فإن الوقت لا يزيد إحتراما لاحتياجاتك منه! و بالتالي يكون الحل المنطقي الوحيد هو تنظيم هذا الوقت ليتناسب مع المسؤوليات المتراكمة، فالهرب - كحمارنا بالأعلى - قد لا يكون متاحا.


نعم، قد تداهمنا بعض الظروف النفسية الصعبة، كالوله و العشق و الحزن و الاكتئاب و الضجر و الضيق و الملل و السأم، قد تأتي هذه المشاعر على حين غرة فتقيد إنتاجنا بشكل عام و تجعلنا أقرب إلى الأصنام منا إلى البشر ... خاصة إذا كان عملنا يتطلب منا الجلوس أمام الحاسوب! نعم، تأتي هذه الظروف ولكنها لا يمكن أن تستمر للأبد فهي ظرفية و ربما لا تحتاج إلا إلى قليل من الجهد للتغلب عليها وتجاوزها. فالولهان و العاشق ما عليه سوى مصارحة محبوبته بمشاعره فإن قبلتها كان به وإن لم تقبلها فليقبل بواقعه المرير وليقنع برزقه و نصيبه، وليبحث عن محبوبة أخرى تقبله! (حسنا ... قد لا يكون هذا هو الحل هو الأمثل، ولكنه أحد الحلول ... أليس كذلك؟!). و الضجران و الحزين و المكتئب ما عليه سوى التداخل مع الآخرين بدلا من السماح لهذه المشاعر بتحطيمه من الداخل! تذكر ... قليل من الجهد ويكون التغلب على المشاعر "السلبية"، كما يحب علماء النفس تسميتها، أسهل من الاستحمام بماء حار في يوم بارد!


أيها القارئ المخلص المتابع لأحرفي إلى هنا، أتوقف عن الاستطراد في هذا الحديث وأعلن من خلال هذه المقالة توبتي من الكسل و عودتي للمدونة بقراءات متنوعة، فأنا لا أريد أن يشبهني أحد بحمار الفلاح الكسول!

ملاحظة: هناك من الكسالى من هو أسوأ ... ربما أعود إليهم في مقال لاحق!!

26 مايو 2009

دعوة عامة: أمسية الطائي



كلما بكرتم في الحضور كلما زادت فرص حصولكم على نسخة من الكتاب "مجانا" مقدمة من منتديات الحارة العمانية.

12 مايو 2009

الحادث المروع ... والبدوية الحسناء!



كنت في طريقي متجها إلى "قرن العلم"، حيث مقر عملي في صحراء عمان القاحلة. كان الطريق - وهو نفس الطريق المؤدي إلى صلالة - طويلا و شاقا، غير أنه كان ممتعا لانعدام المعالم الطبيعية فيه، فلم تكن هناك جبال تحجب الرؤية ولا رمال تعكس ضوء الشمس ... فقط أٍرض فضاء باعوجاجات تحكي تاريخا جيلوجيا موغلا في القدم. كان سبب متعتي بهذا الفراغ هو اختلافه عن المألوف الذي تعودنا عليه ونراه كل يوم، فمسقط محاطة بالجبال من كل صوب والرمال نمر عليها بكرة و عشيا، ولكن الفراغ و الهدوء أبعد ما يكونان عن هذه العاصمة .

أعجبني الهدوء، فقد كانت الأفكار و الأحلام سهلة التحقيق و المنال، وكنت أحقق في ذهني مشروعا لأتبعه بآخر اكبر منه دون كبير جهد مني، ولكنني لم أكد أذهب في هذه الأفكار بعيدا حتى قطع علي مشهد الحادث حبل أفكاري و أعادني بسرعة إلى أرض الواقع! كان الذي رأيت هو المشهد الأخير فقط لهذا الحادث المروع الذي علمت فيما بعد بأنه وقع قبل بضعة أيام. أوقفت السيارة بقرب الموقع و اقتربت من حطام السيارة و الشاحنة ... كنت أهاب رؤية الدماء و أتوجس منه، ولكني لم أجد مناصا من الاقتراب لأخذ بعض الصور للإعتبار و ليعتبر غيري ... بالمشهد طبعا لا بالتفاصيل التي لا أعلمها.

أخذت الصورة الأولى و أتبعتها بالثانية ثم الثالثة ... و فجأة قطع صوت أنثوي حبل أفكاري و انتزعني انتزاعا مما كنت فيه، قالت: "لا تصور ... أريد أمر"!

ومرة أخرى أهبط إلى أرض الواقع بعدما كنت غارقا في أفكار أشد حلكة من سواد الليل متخيلا ما أصاب ضحايا هذا الحادث ... غير أن الصدمة هذه المرة كانت مختلفة عن الصدمة التي سبقتها، فقد كانت لجمال المشهد لا بشاعته، فأنا لم أتصور قط أن تنجب هذه القفار القاحلة اليابسة شيئا بهذا الحسن و البهاء الذي ظهر جليا واضحا من خلف "البرقع" الذي فشل تماما في إخفاء ما وراءه، وكأنه سحابة فشلت في منع أشعة الشمس من الأرض، أو ككف تحاول الحفاظ على ما فيها من ماء دون أن تسعفها فراغات الأصابع! كانت نظرتي الأولى والوحيدة، غير أنها كانت كافية لقلب موازين الجمال و القبح التي كنت أؤمن بها قبل تلك اللحظة!

غلبني الحياء فلذت عائدا إلى السيارة لأكمل طريقي الذي بدا أشد قفارا من ذي قبل، و الغريب هو أنني نسيت تماما مشهد الحادث المروع لمشهد أروع منه، فقط لأتيقن بأن وقع الأشياء الجميلة يكون أشد من تلك القبيحة... و دوامها في النفس قد يكون أطول!

ملاحظة: لا أدري حقيقة لم كتبت هذا المقال، أمن أجل الحديث عن الصورة التي التقطتها أم ...!

28 أبريل 2009

هل كانت شجاعة مني أم حماقة ؟!


قبل خمس سنوات تقريبا... وقفت في أحد قاعات التدريس في الجامعة أمام جمع من المهندسين و الأساتذة لألقي خطاب الجمعية الأمريكية لمهندسي الميكانيكا. كان قد اختارني الفريق لأتحدث نيابة عن الفرع العماني للجمعية في حفل لتوزيع الجوائز على الفرق التي فازت في منافسة تصميم منزل "ذاتي القدرة" على الاستمرار بالطاقة المتجددة، دون الاعتماد على الطاقة المصنعة.

وقفت أمام الجمع الصامت، وفي داخلي غضب هادر ومشاعر ملتهبة. كنت في أحد الحالات التي لا أستطع فيها لجم داخلي - الثائر - من الظهور إلى السطح، وحين يحصل ذلك تختفي كل حسابات النتائج و العواقب ولا تركيز إلا على فعل ما يرضي ضميري. كان القرار قد اتُّخذ قبل بضع ساعات من الحفل ولم يكن هناك مجال للتراجع، ولم أكن لأفعلها حتى وإن رأيت مشنقة أمامي، فقد كنت مستعدا للذهاب بعيدا، بل وبعيدا جدا، ولم يكن ليردعني خوف.

كان الحفل في يوم الأحد في الثامن عشر من شهر إبريل لعام 2004، أي بعد يوم واحد من إغتيال الصقر القسامي الدكتور عبدالعزيز الرنتيسي، وبعد حوالي أسبوع من إغتيال الشهيد المقعد الشيخ أحمد ياسين. كان حبي لهاتين الشخصيتين عظيما لما يمثلانه من رمزية في مقاومة الاحتلال الاسرائيلي، و لصمودهم الأسطوري في سبيل القضية الفلسطينية دون أن يتزعزعوا قيد أنملة خلال مشوارهم الجهادي الطويل. ولهذا كان غضبي قد بلغ مداه إثر سماعي لخبر الاغتيال الثاني، ولم أكن لأترك منبرا دون التحدث عنهما والهجوم على الإرهاب الصهيوني و الأمريكي المساند له، وهذا ما فعلته بالضبط أمام جمع المهندسين و الطلبة في الحفل الآنف الذكر!

كان وقع كلامي - الذي تفاجأ به الجميع دون استثناء - كوقع الماء البارد على الوجوه. صمت مطبق خلال الحديث المنبري، وخلال الأمسية، وبعد الانتهاء منها! لم يعلق أحد على ما قلت، ولم أحصل حتى على تأييد ضمني أو تربيت على كتف من أحد من الحضور، بل ولا على توبيخ ينبهني إلى خطأ ما قمت به، اللهم إلا من هيئة التدريس في وقت لاحق من ذلك الأسبوع. صمتهم هزني، لأنه قطع علي سبيل الدفاع عما قمت به، ووضعوني في حالة شك: هل كنت على صواب باختياري لذلك المنبرللحديث عن شيء كنت أظنه يهم الحضور؟ هل أخذ بي الحماس بعيدا عن موازنة الأمور بمنطقية و إتزان؟ ...

قبل بضعة أيام، وأنا أقلب في أوراقي القديمة، وجدت قصاصة من الورق بها الخطبة التي ألقيت، أضعها أمام القراء الكرام ليخبروني ما لم يقله الحضور في ذلك اليوم: هل كانت شجاعة مني أم حماقة؟!

( لصورة أوضح للخطبة أدناه ... اضغط هنا)




23 أبريل 2009

الخمر و النبيذ في الإسلام



لم أكن لأهتم باقتناء هذا الكتاب لولا حصل ما حصل في زيارتي الأولى إلى المعرض. كنت قد لقيت أحد الاخوة الذين تعرفت إليهم قريبا، فتبادلنا حديثا مختصرا عن المعرض، وفجأة قطع حديثنا وجه مألوف ... دخل بصخب – كعادته – و أصر أن يهدي كتابا لمحدثي. كان عنوان الكتاب "الخمر و النبيذ في الاسلام" ...

رفض س.ح قبول الكتاب على الرغم من إلحاح صاحب الوجه المألوف، فما كان منه إلا الالتفات إلي و إهدائي الكتاب ... قبلت ... فإصراره و رفض صاحبي شدني إلى معرفة ما يحويه الكتاب. وصار أنني كسبت شيئين بقبولي للكتاب ... الكتاب نفسه، و صاحبٌ جديد اسمه معاوية الرواحي ... أو المهذون!

شرعت في قراءة الكتاب في الليلة ذاتها متوقعا أن أجد فيه دراسة جادة و عميقة في موضوع الخمر و النبيذ في الإسلام، فعلي القرني – المؤلف- أوهمنا في مقدمته بأن هذه الدراسة هي دعوة "إلى العودة لقراءة التراث الإسلامي بتعدده، ومن ثم الخروج من الذهنية المنغلقة على قشور ثقافة الماضي الأحادية إلى ذهنية ابتكارية تعددية لا تقبل أي حدود فكرية"، ولكن من يقرأ الكتاب يجد بأن ما يتصل بالدعوى أعلاه، لا يتجاوز عشرين صفحة، والباقي عبارة عن اقتباسات لحكاوي الخمارين و السكارى ومن هم على شاكلتهم في مختلف العصور و الأزمنة، وكأن ذكر هذه القصص خروج عن الذهنية المنغلقة، أو هي تشريع لما اتفق عليه من التحريم!

الهدف الآخر الذي أراده المقري في هذا الكتاب كما يزعم: "أردت من خلال إيراد بعض المغيب عنوة من النصوص المرجعية الإسلامية، أن أبرهن على وجود تعدد في وجهات هذه النصوص، وتعدد آخر في تفسيرها و تأويلها و شرحها يصل أحيانا إلى حد التناقض الذي يتيح إمكانية القول إن الشيء ذاته حلال بمعيار وجهة ما، وحرام بمعيار وجهة أخرى". وهذا الكلام صحيح ولا خلاف عليه، بل و أتفق معه جملة و تفصيلا، ولكنه في الحقيقة أكبر من متن الكتاب الذي إن عدنا إلى مصادره وجدناها هزيلة ضعيفة تصب في الاتجاه الذي أراده الكاتب فحسب ولا تمثل آرآء فقهاء الإسلام، ككتاب "الأشربة وذكر اختلاف الناس فيها" و "قطب السرور في أوصاف الخمور" و "نهاية الأرب في فنون الأدب".

يقع كتاب "الخمر و النبيذ في الإسلام" في ستة فصول، الأول تعريف بالخمر و النبيذ. و الثاني يتناول الخمر – كثقافة – في عصور ما قبل الإسلام. و الثالث عنوانه "الخمر و النبيذ في الإسلام". والرابع عن التداوي بالخمر و النبيذ. و الخامس و السادس عن الخمر و المجون في العصرين الأموي و العباسي بالتوالي.

وما يهمنا حقيقة في هذه القراءة السريعة أن نشير إلى بعض ما استند عليه المقري في هذا الكتيب للاستدلال على "اختلاف العلماء حول حرمة الخمر". وقد أشار المقري إلى ثلاثة أمور – وهي مستوحاة من شخصيتين أشار إليهما الكاتب، أحدهما هادي العلوي، و الثاني صاحب كتاب "الأشربة وذكر اختلاف الناس فيها" واسمه ابن قتيبة الدينوري – هي،

أولا: أن آية الاجتناب، ((يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون))، إنما أنزلت "تحبيذا للامتناع عن شرب الخمر، روعيت فيه الاعتبارات الشخصية للفرد" فهي – أي الآية – لم تصرح بالتحريم وكذلك لم تشر إلى عقوبة لشارب الخمر ولذلك لا يعول عليها في التحريم.

والثاني: أن الآية ((ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا و آمنوا)) تدل على تخفيف اللهجة وحصول نوع من التسامح اتجاه شارب الخمر، خاصة و أنها نزلت بعد آية الاجتناب.

و الثالث: أن الآية التالية – وهي من أواخر ما نزل من القرآن – لم تذكر الخمر ضمن المحرمات في الطعام، ((قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتا أو دما مسفوحا أو لحم خنزير)).

هذا بعض ما أورده المقري في كتابه، وهي نقاط – كما أظن – واهية لا تصمد أمام الحقيقة الجلية الواضحة، أن تحريم الخمر إنما جاء على مراحل و أن آية الإجتناب إنما جاءت في ختام هذه المراحل، وسياقها لا يدل إلا على التحريم لا كما نقل المقري. و أما الآية الثانية فقد نزلت عندما سأل الصحابة رسول الله – بعد نزول آية التحريم – عن أصحابهم الذين ماتوا وهم يشربون الخمر قبل التحريم، كيف يكون حالهم؟ فكان أن نزلت هذه الآية لتدلل على أن لا حرج عليهم بعد أن آمنوا و اتقوا. وأما الآية الأخيرة فقد جاءت في سياق، ونزعها من سياقها يخل بفهمها، فهي جاءت أولا في معرض الحديث عن الأنعام، ثم إنها كانت ردا على الذين حرموا بعض ما في بطون هذه الأنعام على إناثهم و أزواجهم، جاءت ردا على افترائهم و تأكيدا على أن لا حرام من هذه الأنعام على آكل يأكله إلا ما جاء في سياق الآية. فكيف إذن يستخدمها المقري هذا الاستخدام الشنيع للتدليل على ما لم تشر إليه الآية أصلا؟!

في النهاية أقول، إذا ما كانت هناك فائدة من هذه القراءة، فلن تكون إلا في شيئين. الأول معرفة ماهية الخمر و استخداماتها و المصطلحات المتعلقة بها. و الثاني هو الكشف عن الحقيقة المؤسفة لكثير من "الخلفاء الأمويين و العباسيين" الذين حفل بهم المقري بنوادرهم الخمرية في كتابه هذا، مستخدما مجونهم للتدليل على أن في حدود الخمر وحرمتها خلاف، فواأسفا على مثل هؤلاء الخلفاء ... و على من سار في دربهم إلى هذا اليوم!

03 أبريل 2009

رومــــــــــا


الوصــــول

عندما حطت بنا الطائرة في روما و استقبلنا رجال الأمن بزيهم الأزرق المائل إلى السواد ... ظننت بأن هذه الرحلة ستكون مختلفة عن سابقاتها من الرحلات، ربما ببعض المفاجآت مع رجال الأمن، خاصة وأن آثار ١١ سبتمبر ما زالت تنتشر كالنار على الهشيم في الإجراءات التي تبتدعها عقول رجالات الأمن في مطارات العالم. كنت واثقا بأن فريق المهنيين الذي كان معي لا علاقة له بالإرهاب، لا من قريب ولا من بعيد. فاطمأنت نفسي بأن هذه الإجراءات ما هي إلا روتين ربما يكرهها أصحاب البدلات الزرق أكثر من ضيقنا بها!

شغَلتُ فكري بمتابعة الناس من حولي، مستحضرا الموجود في فكري عن الطليان، من حبهم للفن المعماري و الرسم و بروزهم فيهما، وتفوقهم في صناعة البيتزا و براعتهم في الأزياء و الموضة و الموسيقى. كان لدي أيضا انطباع - لا أدري مصدره - هو أن الطليان هم بدو أوروبا! لا أدري مظاهر هذه البداوة ولا لماذا رُبط الطليان بها، لكنها كانت خاطرة أعترف بأنها زالت حالما خرجت من المطار.

انتهت إجراءات رجال الأمن و سلمونا جوازاتنا، فحييناهم تحية حارة من الأعماق و سارعنا بالرحيل قبل أن يغيروا رأيهم. كانت الزيارة الأولى لي ولمن كان معي، ولكن لم نجد صعوبة في الحصول على محطة القطار و التحرك بإتجاه المدينة، مدينة روما التاريخية. في محطة الوصول استقبلنا شاب ذو أصول مغربية، دلنا على فندق قريب لقاء أجر بخيس. ما الذي دعاه لمثل هذا العمل؟ وكم يجني من المال ؟ لم أهتم كثيرا للحصول على جواب فقد كانت الخدمة بالنسبة لنا مفيد جدا لما وفرته علينا من وقت و عناء حمل الأمتعة من مكان إلى آخر بحثا عمن يأوينا خلال الليل.

المديــــنة
قضينا ليلتين في روما كانتا من أجمل الأيام التي قضيتها في رحلة سياحية خارج وطني، فقد أبهرتني حقا تلك المباني و المدن التي شيدت في بدايات القرن الأول، وما صاحبها من هندسة و معمار يعتبر متطورا في هذا القرن، فكيف كانت وقتذاك ؟! كنا نجول في أورقة الحصارة الرومانية مشيا على الأقدام، فالمدينة القديمة كانت صغيرة نسبيا، والمشي من طرفها إلى طرفها الآخر لم يكن ليستغرق أكثر من ساعتين أو ثلاثة. حاولنا استخدام قطارات الميترو المكتظة، ولكنها كانت خطيرة بسبب كثرة النشالين الصغار الذين كنا نضبطهم وأيديهم الخفيفة المتمرسة تداعب جيوب الركاب بحثا عن غنائم، ولا يلبثوا قليلا حتى يحثوا الخطى بعيدا وهم يتبادلون الضحك متطلعين لاقتسام ما غنموه من السواح الذين سلبت المدينة عقولهم بجمالها و بهائها!

من المعالم التي شدتني إليها و جذبتني بعيدا في عالم الخيال هو المسرح الروماني العملاق. فالمسرح لم يكن أعمدة و خراسانات برع في تصميمها و تشييدها الرومان فحسب، بل كان تاريخا ينطق بعظمة الحضارة التي شيدتها ومدى تطور العلوم الهندسية و المعمارية في هذا الوقت المبكر من التاريخ. فعلى سبيل المثال، صُمم المسرح ليتحمل الهزات الأرضية، وقد أثبت التاريخ قدرة هذا البناء الضخم على البقاء مع عوامل التعرية الطبيعية القاسية التي مر بها. كما صممت أرضيته الخشبية المغطاة بالرمل لتتحمل أوزان شتى أنواع الحيوانات في العروض التي برع في إبداعها الرومان، هذا مع وجود طابقين سفليين يقعان تحت هذه الأرضية تُحجز فيهما الحيوانات و يقبع فيها المقاتلون قبل بداية العروض المميتة. وأما المقاعد فقد كانت تتسع لخمسين ألف متفرج، ويقال بأن المسرح كان يحوي غطاء خشبيا في أعلاه يرفع بآلات يدوية مثبتة على الأرض، يغطي المسرح بالكامل لحماية المشاهدين من أشعة الشمس وزخات المطر! كان هذا مدهشا بما فيه الكفاية، غير أن دهشتي زادت لمّا حدثنا مرشدنا السياحي عما كان يدور في المسرح من عروض ومفاجآت.

قال المرشد الذي كان يتحدث الانجليزية بطلاقة، أن من أغرب العروض التي عرضت في المسرح في ذلك الزمان الغابر هو يوم أتي بإثني عشر أسدا حبسوا في الأقفاص بلا طعام، ثم أتي بإثني عشر فيلا ممتلأً ووضعوا في المسرح قبل أن يطلق سراح الأسود الجائعة. ولكم أن تتصوروا الملحمة التي دارت بين الفريقين، ومدى الدهشة التي أصابت الحضور وهم في الغالب لم يروا مثل هذه الحيوانات من قبل! لم أمنع لساني من البوح بما شغلني: من الذي فاز؟! قال المرشد: لا يهم، فالكل في نهاية العرض يُقتل! ... كانت الأرواح ليست بذاك الأهمية، فكمن من محارب قَتل و قُتل لإلهاب مشاعر المشاهدين في المسرح، بل يقال بأن أكثر من ٥٠٠ ألف مقاتل قتل في المسرح، ناهيك عن مئات الآلاف من الحيوانات التي سفكت دمائها دون أن تدري ماذا جنت لتذبح هكذا. والهدف - كما أخبرنا المرشد - هو شغل الناس بالملهيات حتى يستتب الأمر للإمبراطور الروماني. حتى أنه كان هناك ٥٢ من مختلف أنواع الملاهي في مدينة لا يقطنها سوى بضع مئات من الآلاف من الناس!


ومن الحوادث الطريفة التي مرت بنا في أعتاب المسرح الروماني، هو حينما جائنا ثلاثة من الطليان متقنعين بثياب الحرس الروماني القديم سائلين إن كنا نريد التصوير معهم. نظرنا إلى بعض ثم قررنا دفع واحد منا للتصوير، رفض في البداية ثم مع إلحاحنا قبل على مضض دون أن ينتبه للإبتسامة التي علت شفاهنا عندما أولانا ظهره. بدأنا في تصويره و الرومان الثلاثة يحيطون به مبتسمين أولا، ثم في وضعية المقاتلين، ثم قبضوه و كأنهم يريدون ذبحه، وأخيرا واضعين السيف بين رجليه وكأنهم ينوون خصيه! ونحن - المشاهدين - في كل هذا ما بين القهقهة و التصوير، لا ندري أنضحك على ما يفعله الرومان الثلاثة أم على نظرة البلاهة و الحمق التي علت وجه صاحبنا! (لولا الحياء و الاحترام الذي أكنه لصاحبي هذا لوضعت الصورة هنا لتشاركوني الضحك)

بعد أن انتهى صاحبنا ودفع للصوص الثلاثة ٤٠ يورو (أي ٢٠ ريالا!) حاولوا الحصول على زبون آخر، ولكن هيهات أن يضحكوا علينا كما فعلوا بصاحبي. وكان مما قالوه بأنكم أنتم العرب تمتلكون آبار النفط في حدائق بيوتكم الخلفية، ولا تريدون دفع ما عندكم من مال إلا لأسامة بن لادن و أمثاله! كان لزاما علينا الرد، ولم يكن غيري ممن معي يملك تلك الإندفاعة الحمقاء التي عادة ما تودي بصاحبها إلى ما لا تحمد عقباه، فقلت بحس المداعب الضاحك: أستطيع أن أوصل المبلغ إلى أسامة إن أردت؟! ... نظروا إلينا شذرا وقرروا الرحيل، ونحن أيضا سارعنا بالرحيل بعد أن عاد إلي شيء من العقل و حسبت ما تستطيع هذه الكلمات زجي إليه!



الرحـــــيل

زرنا خلال اليومين مواقع عدة، مثل الفاتيكان، أصغر دولة في العالم و معقل الكنيسة الكاثلوكية، و مررنا ببناء البرلمان الروماني، و أطلال الحضارة الرومانية، و العديد من الكنائس الجميلة و القصور البهية، وكذلك مقر "الصرف الصحي" الذي كان يأخذ المياه بعيدا عن المدينة وما زال يعمل إلى يومنا هذا! ولم يفتنا زيارة مبنى في أسفله بحيرة جميلة يقال بأن من يرمي فيها بضعة قروش لا بد أن يجد السبيل إلى قلب من يحب ، فرمينا مقلدين لا مؤمنين، مع أن كل ما في روما كان ينطق برومانسية لم أشهد لها مثيلا في مدن أوروبا الأخرى. ولم يفتنا أيضا زيارة قوس النصر الجميل الذي شيد بعد انتهاء الحرب العالمية.

انتهت الزيارة سريعا، وقررت بأن العودة إلى روما شيء لا بد لي منه، فقد بهرتني بجمالها الخلاب و مبانيها الأنيقة و عبقرية معمارييها و مهندسيها وروعة فنانيها و رساميها. انطلق القطار عائدا بنا إلى المطار، وفي بالي سؤال ملح: كيف سقطت إمبراطورية هكذا كان شأنها وتلك كانت قوتها و عبقريتها؟ ما هي عوامل سقوطها؟ وكيف نهض بها أبناؤها من جديد؟ فتذكرت قول المولى الحق في كتابه الكريم: ((وتلك الأيام نداولها بين الناس))!




21 فبراير 2009

ستة أطر للنظر من خلالها إلى المعلومة


عندما يحمل كتاب ما اسم إدوارد دي بونو، فلا بد أن يكون الموضوع متعلقا بالتفكير، فالكثير من مؤلفاته هي عبارة عن تقنيات مبتكرة تساهم في تطوير العملية الفكرية، كما أنه هو أول من أشار و أسس لعلم "التفكير الإبداعي" ووضع قواعد لهذا العلم زاعما أن بإمكان الفرد أن يتعلم مبادئ هذا النوع من التفكير، و يمارسه عن وعي !

ولا يختلف الكتاب الذي نحن بصدد الحديث عنه عما سبقه من مؤلفات، فهو يتناول التفكير ويبحث له عن وسيلة تعينه على العمل و التعامل مع ما حوله من متغيرات و تقلبات في أساليب الحياة التي تزداد تعقيدا يوما بعد آخر، وحتى نكون أكثر دقة فإن بونو يحاول من خلال هذا المؤلف أن يعين العقل على التعامل مع الثروة الهائلة من المعلومات التي تحيط بنا. فما هي الأطر الستة ؟ و كيف يمكننا أن ننظر من خلالها إلى المعلومة؟ و وما هو المكسب الذي سنحققه في اتباع هذه الآلية؟

هذا ما سنقرأه سويا في الأسطر القادمة ...

***
كل ما حولنا يشير بأننا نعيش في عصر المعلومات ... فالمعلومة - حول أي شيء - في متناول الأيدي، ولا يحتاج الفرد إلى كثير عناء للحصول عليها، إذ تكفي بعض النقرات مع اتصال بالشبكة العالمية وتكون المعلومة أمام من يبحث عنها. فمن يبحث عن تشخيص لمرض ما يكفيه كتابة ما يشكو منه ليحصل على تفاصيل مرضه، ومن أراد السفر من مكان إلى آخر يجد أن حركة الملاحة الجوية العالمية موجودة في الشبكة، ومن أراد معرفة شيء عن أي شيء سيجد أكثر مما يبحث عنه في الشبكة العالمية!

فالحصول على المعلومة – إذن – أصبح لا يشكل تحديا كما كان في السابق، بل إننا نجد من المعلومات أكثر مما نحتاج إليها، بل و ربما أكثر مما تستطيع طبيعتنا البشرية استيعابه. وتمر علينا المعلومات و نمر عليها دون أن نتمكن من استخلاص كل ما فيها من فائدة، و لا شك بأن العقل لا يستطيع أن ينتبه لأكثر من شيء في اللحظة الواحدة، وحتى إذا ما انتبه إلى شيء يكون ذلك الشيء هو ما جذب انتباهك إليه لغرابته أو اختلافه و ليس لأننا قررنا أن نوجه فكرنا إليه. فلو – على سبيل المثال – كنت تقود السيارة إلى وجهة ما، فأي جسد ملقي على الطريق و الناس متجمهرة حوله، سيثير اهتمامك و ستوجه فكرك إليه لا إراديا بدلا من التركيز على ما هو مهم: الطريق و مخاطره!

ولهذا فإن فن توجيه الفكر نحو ما تريد من المعلومة تحديدا، ليس بالسهولة التي نتصورها لوجود الكثير من "المغريات" التي تصرفنا عن المهم في المعلومة. ولكن في المقابل، فإن إتقاننا لفن توجيه الفكر عند قراءة المعلومة سيعمل على الاستفادة القصوى من تلك المعلومة. ولنضرب مثالا لكي تتضح الصورة، فلو وقف شخص ما على الطريق ينظر إلى الألوان الموجودة حوله لربما لاحظ وجود اللون الأخضر و ربما الأزرق أو الأحمر، دون أن ينتبه كثيرا للتفاصيل. ولكن لو طلب منه البحث عن اللون الأحمر أولا ... ثم طلب منه النظر إلى اللون الأخضر و من بعدها الأزرق، فإن المحصلة النهائية للمعلومة ستكون أكثر دقة... فهو الآن سينتبه لوجود زهرة حمراء ملقية على الأرض، وتوجد سيدة في الجانب الآخر مرتدية رداء أحمر، وهناك سيارة عليها شعار أحمر اللون ... وهكذا – بتوجيه العقل للانتباه لأشياء بعينها – فإن المعلومة لن تكون أكثر دقة فقط، و لكنها ستكون أشمل كذلك! و ستكسب من محيطك معلومات لم تكن أصلا مجهزة أو معروضة لك!


وهذا هو ما يقدمه ديبونو في هذا الكتاب ... آلية نستطيع بها توجيه فكرنا نحو المهم في المعلومة، بدلا من أن نسرح في "الوضعية الآلية" للتفكير، بحيث أننا دائما ننظر إلى المعلومة بطريقة واحدة فقط، وغالبا ما تكون هذه الطريقة هي أيسر الطرق بالنسبة لنا – ولهذا سميت بالوضعية الآلية – فنستخدمها في قراءة المعلومة و نترك ما سواها من جوانب قد تكون أكثر فائدة.
فكرة ديبونو بسيطة، فهو يطرح ستة إطارات – أو سمها أشكال – ننظر من خلال كل واحد منها إلى المعلومة، وكل إطار يرمز إلى "كيفية" سيأتي ذكرها... وبهذا أنت توجه فكرك للانتباه في جوانب متعددة في المعلومة، و تفعل ذلك بانتظام لا يحير العقل! ويربط ديبونو "الكيفية" بأشكال مختلفة لكي يستنفر كل شكل كيفية معينة فتقول: فلأنظر إلى المعلومة من الإطار المثلث، ثم بعدها من الإطار الدائري ... وهكذا حتى تنتهي من الأطر الستة وتكون قد كسبت من المعلومة أكثر من مجرد القراءة العابرة!

***
أول هذه الإطارات هو الإطار المثلث وهو يرمز إلى "الهدف" الذي من أجله تبحث عن المعلومة. والمثلث ذو ثلاث زوايا كل واحد منها يرمز إلى سؤال، الأول: ما الهدف من البحث عن المعلومة؟ الثاني: لماذا أحتاج لهذه المعلومة؟ و الثالث: من أين يمكن لي أن أحصل على المعلومة؟
والهدف من طرح هذه الأسئلة هو أن يكون هدف البحث واضحا أمامنا بدلا من أن يكون في مكان ما خلف عقولنا، وبوضوح الهدف فإن المعلومة – المتوفرة أصلا، كما اتفقنا من قبل – ستكون فائدتها أكبر.


الإطار الثاني هو الدائرة، وهو يرمز إلى "الدقة"، أي دقة المعلومة المتوفرة، و هل بإمكاننا الاعتماد عليها أم علينا التأكد من صحتها من مصدر آخر؟ طبعا لا يمكن التأكد من كل شيء، ولكن علينا أن نضع في الاعتبار أن المعلومة قد لا تكون دقيقة بما يكفي ولذلك فهناك أهمية أن نتحين الفرص للتأكد من ذلك.



أما الإطار الثالث فهو المربع، وهو يرمز إلى "وجهات النظر"، و كل أضلاع المربع متساوية في الطول... وهكذا يتم التعامل مع وجهات النظر المختلفة. فمصدر المعلومة قد لا يكون دائما محايد، ومعرفة وجة النظر التي أتت منها المعلومة يساعد عادة في تقييمها ووضعها في مكانها المناسب.


والإطار الرابع هو القلب، وهو يعبر عن "الاهتمام"، و الإنسان عادة ما يبحث في الأمور التي يهتم لها و تستهويه، و لهذا فإن النظر إلى المعلومة من خلال درجة اهتمامنا بها يجعل الفائدة التي فيها أعمق.


والإطار الخامس هو "الألماس" ، وهو يعبر عن "القيمة"، القيمة الفعلية للمعلومة: هل لبت الحاجة التي من أجلها بحثنا عن المعلومة أم لا؟ هل جاوبت المعلومة السؤال المطروح؟ هل كسبنا قيمة حقيقية من هذه المعلومة أم لا؟ و الهدف من طرح هذه الأسئلة هو توجيه العقل للتفكير في قيمة المعلومة بدلا من قبولها على ما هي عليه.

أما الإطار الأخير فهو المستطيل، وهو يعبر عن "النتيجة"، أي النتيجة النهائية التي توصلنا إليها من خلال بحثنا في المعلومة نفسها، وهل كانت النتيجة بخلاف ما كنا نعتقده من قبل أم أن قناعاتنا تعززت بالنتيجة التي توصلنا إليها من خلال البحث. وهذا المستطيل يدعونا للتفكير في النتيجة النهائية وما إذا كانت النتيجة كافية أم أننا بحاجة للبحث في مكان آخر؟

***

حسنا ... ما الذي استفدناه من كل هذا ؟ هل تقنية الأطر هذه مفيدة بالفعل أم أنها مضيعة لوقت لا نملكه أصلا؟! هل ستغير هذه التقنية من الطريقة التي ننظر بها إلى المعلومة أم لا؟

الجواب بطبيعة الحال عائد إلى المسؤول عنه بشكل أساس، ووجهة نظري أن هذه التقنية مفيدة للقارئ الباحث الذي يبحث في قضايا بعينها، سواء كانت اجتماعية أم سياسية أم دينية أم اقتصادية أم غيرها من مجالات البحث ... فهي أداة تتيح له التعمق في نظرته إلى المعلومة، و التاكد من فائدتها و مدى حياديتها، و من ثم معرفة قيمتها، و أخيرا تمحيص النتيجة النهائية و التفكر فيها.

أود في النهاية أن أنبه بأن ما جاء حول الأطر في هذه المقالة ما هو إلا الفكرة العامة للكتاب، وهناك تفاصيل أكبر و أهم في الكتاب نفسه، ومن أراد الاستزادة فعليه بالكتاب الذي لا غنى عنه لكل باحث يجد صعوبة في تمحيص المعلومات التي تتكالب عليه من كل جانب!