21 سبتمبر 2008

الصـــراع الأبـــدي

الصراع الأبدي ليس كتابا تأريخيا مع أنه يتناول أحد أكثر القضايا التاريخية حساسية عند المسلمين، إذ لم يعمد صاحب الكتاب - الدكتور زكريا المحرمي - إلى أسلوب السرد التاريخي المتسلسل الجامد، بل اتجه إلى التحليل و التمحيص و الخروج بتساؤلات و نظريات حول القضايا الخلافية التي يتناولها هذا البحث. ويزعم الكاتب بأنه أسس "منهج كلّي شمولي متكامل لتوجيه القراءة التاريخية نحو آفاق المعرفة السليمة و المنضبطة بعيدا عن رياح العاطفة و هياج التعصب و الطائفية".
.

الكتاب عبارة عن "قراءة تحليلية في جدليات الصراع السياسي بين الصحابة و انقسام المواقف حولها" و يقع في خمسة أقسام رئيسية سنتناول كلا منها على حدة في هذه القراءة السريعة للكتاب.
.
***
.
القسم الأول: تأسيس المنهج
.
وقد يكون هذا القسم هو أهم ما في الكتاب، لأن كل ما سيأتي بعده سيكون تطبيقا للمنهج الذي اقترحه المؤلف في هذا القسم. و أول القضايا المطروحة هي قضية العلم و الظن. فالعلم مقرون بالجزم، أما الظن فيبقى ظن و لا يمكن تأسيس شيء عليه لعدم ثبوته وصعوبة الجزم به. والعلم الجازم نفسه ينقسم إلى قسمين كما قسمه علماء الكلام، العلم الضروري أو البديهي وهو ما جزمنا بصحته بسبب تواتره (كمعرفة البشرية بسيدنا محمد صلى الله عليه و سلم و أن القرآن نزل عليه و أنه كان في مكة)، و القسم الثاني هو العلم النظري أو الكسبي الذي جزمنا بصحته بسبب الأدلة التي دلت عليه (كربانية مصدر القرآن الكريم و التي دل عليها إعجاز القرآن نفسه) وهو ما حول الخبر الآحاد - الذي جاء به محمد- إلى خبر يقيني لا جدال و لا مراء في صحته.
.
ثم ينتقل المؤلف إلى تعريف الخبر المتواتر الذي يشترط فيه العقل و المشاهدة و العدد و استحالة التواطؤ على الكذب. و الخلاف في ثبوت التواتر - بالاضافة إلى العدد الذي يحصل بهم التواتر - هو الشرط الأخير المذكور. إذ يرى الكاتب بأن ما يرويه أصحاب المذهب الواحد - مهما كثر عددهم - لا يرتقي إلى درجة التواتر إذا كان هناك ما يخالفه أو يناقضه عند مذهب آخر ومثّل على ذلك بإمكانية تواطؤ جيش بأكمله على كذبة نصرة لقضية يحارب الجنود من أجلها، ولهذا فإنه يصطلح على مثل هذه الأخبار بالأخبار "المشهورة مذهبيا"، وهي أخبار ظنية الثبوت لا جزم فيها.
.
ثاني القضايا التي أراد المؤلف أن يؤسس لها منهجا جديدا هي قضية الولاية و البراءة. وأهم ما جاء في هذا القسم هو أن الولاية و البراءة - مع فرضيتهما - لا يستلزمان الحب و البغض، و لكنهما يعبران عن "ممارسة عقلية واعية". بمعنى آخر هي ممارسة - أو عدم ممارسة عند الحديث عن البراءة -" لحلف سياسي إجتماعي دون ارتباط هذه الممارسة بالمعاني الوجدانية كالمحبة و المودة أو البغض و الكراهية المتعلقة غالبا بالمواقف الشخصية المجردة". والذي يريده الكاتب من هذا التعريف هو" فهم و استيعاب سيكيولوجيا احتراب الصحابة،و تفسير كثير من المواقف التي حدثت في تلك الحقبة من الزمن"
.
أما ثالث قضية فهي الصحابة و القول في عدالتهم. وقد استفاض المؤلف في هذا الفصل مناقشة مفهوم الصحابة عند أهل الحديث، و رد عليهم ما استدلوا به من القرآن و السنة النبوية القول بعدالة كل فرد من أفراد الصحابة لأنه - أي عند الكاتب - "وقوع في فخ قدسية الأشخاص وهو عين القول بالعصمة و إن لم يصرح بها". غير أن المؤلف يعود فيأكد على عدالة عموم الصحابة و إلا لما وصل الشرع إلينا بالعلم اليقيني المتواتر، لأن "عدالة المجموع يشكل سدا أمام أية محاولة لتشويه الشريعة وتحريف نصوص الكتاب".
.
ثم يعرج الكاتب إلى قضية الرسول صلى الله عليه و سلم و الإنباء بالغيب، وخلاصة المنهج الذي يريد الكاتب تأسيسه في هذا الفصل هو عدم قبول المرويات التي جاءت من خلال كتب السنة النبوية تُنبئُ بالغيب، لتعارضها الصريح مع ما جاء في القرآن بأن علم الغيب خاص بالله عز و جل. والذي يمكن قبوله مما نسب إلى الرسول هو ما جاء إستقراء للواقع وتخمينا للنتائج.
.
وأخيرا يخبرنا الدكنور زكريا في آخر هذا الفصل بأنه إختار منهج "القواعد الكلية" للتعامل مع النصوص التشريعية، وهو منهج "يستوعب جميع المبادئ التي قامت عليها المناهج السابقة (أي منهج التعامل الحرفي مع النصوص، ومنهج القياس الشرعي، و منهج استظهار المقصد الشرعي) ويقوم بالريط بينها و بصورة تكاملية تتجاوز الخلل و النواقص في كل منها".
.
***
.
القسم الثاني: القراءة التاريخية للأحداث السياسية في عصر الصحابة
.
من خلال المنهج الذي أسسه الدكتور زكريا في القسم الأول، فإنه يطوف بنا في جولة طويلة ومتأنية للأحداث الرئيسية التي اختلف فيها الصحابة (و المذاهب الاسلامية فيما بعد) منذ وفاة الرسول صلى الله عليه و سلم إلى بيعة الحسن بن علي. فيبدأ ببيعة أبي بكر الصديق و الشبه التسع المثارة حول إمامته. ثم إلى خلافة عمر بن الخطاب و الشبه الأربع المثارة حول خلافته و سيرته.
.
ثم انتقل الكاتب إلى خلافة عثمان بن عفان وما وقع فيها من أحداث، و جادل في هذا الفصل المطاعن التي طُعنت على عثمان بن عفان كإحراق المصاحف وضرب عمار بن ياسر و عبدالله بن مسعود و أبي ذر الغفاري ونفيه. كما تحدث عن الأسباب الحقيقة للثورة على عثمان ثم تحدث عن مقتله، و نبه على أنه - من خلال استقراء الأحداث - فإن حادثة مقتل الخليفة " ليست بالضرورة مرتبطة بأحداث الثورة و رموزها"، فقد كان من قادة الثوار من يعارض فكرة حصار بيت الخليفة - كالأشتر النخعي - كما أن حادثة إغتيال الخليفة نفسها قد قيدت" في سجلات محكمة التاريخ ضد مجهول".
.
بعدها انتقل إلى خلافة علي بن أبي طالب، وناقش حرب الجمل ثم معارك صفين و النهروان، وأسهب في الحديث عن أهل النهروان - القراء - ولماذا سموا بهذا الاسم، وكيف ان عملية وصفهم بالخوارج ما كان إلا "في سياق الحرب التعبوية التي شنها علي بن أبي طالب ضد خصومه المنشقين عن قبائلهم حين خرجوا عن جيشه"، ورد كذلك على وصف بعض المؤرخين لأهل النهروان - ولو من باب الإعذار - بالحماقة و السذاجة و الجلافة فالحقائق التاريخية تدل على أنهم لم يكونوا كذلك بل تدل على كونهم "امتدادا لفقهاء الصحابة". ثم قام المحرمي باستقراء و تحليل الأسباب الحقيقية وراء معركة النهروان التي لم يستفد منها أهل النهروان أنفسهم و لا علي ابن أبي طالب بل كان معاوية بن أبي سفيان هو المستفيد الأوحد و الأكبر منها، فلا يستبعد بأن يكون معاوية الذي قال: "لقد حاربت عليا بعد صفين بغير جيش و لا عناء" قد استخدم أحد قادة جيش علي (الأشعث بن قيس) و الذي شكك بعض الباحثين في ولائه لعلي، لتفتيت جبهة جيش العراق من الداخل.
.
وقد ناقش المحرمي أيضا قصة المخدّج و علاقته بأهل النهروان، فالرسول صلى الله عليه و سلم لا يتنبأ بالغيب كما أُسس في القسم الأول، وغاية ما يقال في هذه الحديث و الذي جاء في بعض رواياته خاليا "من تلك الزيادات المتكلفة والتي تزعم علم النبي صلى الله عليه و سلم" هو استقراء النبي "ظهور طبقة المحتالين الذين يدعون الحديث باسم الاسلام وهو منهم براء". كما أن علي بن أبي طالب قد عرف عنه بأنه كان يقول الحديث إما نقلا عن الرسول و إما دعاية حربية، وأنه كان يفرق فيما بين الاثنين بقوله " صدق الله و رسوله" إن كان قوله دعاية حربية، وهو ما ثبت قوله لهذه العبارة عندما رأى المخدج، و" رواية علي لرواية المروق بعد قوله (صدق الله و رسوله) لا علاقة لها بشخصية المخدج". ثم اختتم الحديث في هذا الفصل بما ثبت عن ندم علي بعد قتله لأهل النهروان ثم مقتله و الدراما المسرحية التي استخدمت لإلصاق تهمة مقتله ببقايا أهل النهروان، و أخيرا بيعة الحسن بن علي و الصلح مع معاوية.
.
ولا يفوتني أن أشير بأن المحرمي قد طرح تساؤلا مثيرا حول حقيقة الدور الذي قام به مروان بن الحكم و إن كان "أحد مدبري الفتنة العظيمة التي طحنت الأمة الاسلامية إلى يومنا هذا؟ ربما!" ... "غريب أمر مروان هذا؟ الكل اتهمه بتوريط الخليفة السابق - عثمان بن عفان - بسياسات مالية و إدارية أدت إلى إلى مقتل الخليفة، و اتهمه ابن تيمية بتوريط الخليفة عن طريق تلفيق كتاب بقطع رؤوس وفد مصر، و اتهمته السيدة عائشة بمحاولة تفريق الزبير و طلحة و قالت له " "مالك؟ اتريد أن تفرق أمرنا" ، وها هو الآن يطلق صواريخ أسهمه نحو طلحة الذي خرج معه و تركه في منتصف الطريق، ماذا يريد مروان؟ ولماذا يشارك في كل هذه الفتن؟ لمن يعمل مروان و ما هي أهدافه الاسترتيجية؟"
.
***
.
أما الأقسام الثلاث الأخيرة فتتحدث بشيء من التفصيل عن الصحابة عند مدارس أهل السنة و الجماعة ثم عند مدارس الشيعة و أخيرا عند المدرسة الاباضية.
.
***
.
الكتاب يستحق الوقت الذي قضيته في قراءته، لأنه يطرح تساؤلات، و التساؤلات بطبيعة الحال تدعو إلى التفكير، و التفكير يدعوك إلى التعمق في الموضوع و بالتالي تتحرك النفس باتجاه البحث و التحري و أخيرا الوصول إلى نتائج و قناعات.

هناك تعليقان (2):

  1. السلام عليك أخي سعيد

    الكتاب فعلا يبدو مشوقا

    عندي سؤالان إذا تسنى لك الوقت:
    1- ما الأسباب الحقيقية للثورة على عثمان برأي الكاتب؟
    2- لا أجد نفسي متقبلة لهذه الجملة: "الحرب التعبوية التي شنها علي بن أبي طالب ضد خصومه". كيف دافع الكاتب عن موقفه؟

    وأيضا للتأكيد، ما مكانة ذي النورين وحيدرة الكرار رضي الله عنهما عند الإباضية برأي الكاتب؟

    www.halazri2006.jeeran.com

    ردحذف
  2. حمد،

    نسيت الرد على هذه الأسئلة.

    سأعود إليك قريبا ...

    ردحذف