10 سبتمبر 2008

زمن الخيول البيضاء


(أنا لا أقاتل كي أنتصر بل كي لا يضيع حقي.لم يحدث أبدا أن ظلت أمة منتصرة إلى الأبد. أنا أخاف شيئا واحدا: أن ننكسر إلى الأبد، لأن الذي ينكسر إلى الأبد لا يمكن أن ينهض ثانية، قل لهم احرصوا على ألا تهزموا إلى الأبد)
خالد الحاج محمود
*****
منذ متى لم تقرأ أيها القارئ الكريم رواية ملحمية فلسطينية إلى النخاع ؟ و منذ متى لم تقرأ رواية تحكي الحكاية الفلسطينية من الداخل و من البداية ؟
*****
إبداع جديد نقرأه لإبراهيم نصرالله في ملهاته الفلسطينية الجديدة. و لكن هذه المرة بأسلوب آخر غير الرموز كما كان قد عودنا في الروايات الخمس السابقة، فكان أسلوبه بسيطا و مباشرا: عرض التاريخ و الوقائع على الأرض. التاريخ بأحداثه المؤلمة و المحزنة و المفرحة، التاريخ بأحداثه التي تبعث بالحماس و الأخرى التي تبعث باليأس.
لقد اختصر نصرالله 125 سنة من التاريخ في 506 صفحات، كل صفحة منها تدعوك للتأمل و تشدك للصفحة التي تليها ... وفي كثير من الأحيان الصفحة التي تسبقها كذلك! وهذه الرواية تحديدا هي التي بدأ بها مشروعه الكبير الذي سماه "الملهاة الفلسطينية" و لكنه و لأسباب ستتبدى لنا عندما نقرأ الرواية نجد أنه بدأ بهذه الرواية عام 1985 و لكنه أصدر 5 روايات قبلها و من ثم جاءت زمن الخيول البيضاء ليتوج بها عمله الروائي الكبير، و لتصبح الجزء الأخير من الملهاة بدلا من الجزء الأول كما كان يخطط.
يقول نصر الله:" كنت أظن أن هذه الرواية هي الملهاة الفلسطينية"
وبالفعل هي كذلك! لأن الرواية تناولت القضية في مراحلها الثلاث الرئيسية، الفترة العثمانية ثم فترة الاحتلال البريطاني ثم فترة الارهاب الصهيوني و انتهاء بالنكبة. وفي كل مرحلة من هذه المراحل نرى كيف كان الانسان الفلسطيني مرتبط بأرضه راضيا و متمسكا بها و لا يريد شيئا غيرها مهما كان الثمن!
وفي الرواية أبعادا أخرى غير التاريخ ... و البعد الذي أقصده هو الانسان بكل تناقضاته الداخلية و مستوياته الثقافية و تقلباته المزاجية ... في الرواية نغوص في أعماق الانسان الثائر و الانسان الخائن و الانسان الحائر و الانسان الضعيف و القوي و الذكي و الأحمق و نرى الشجاع و الجبان و ... الخ الخ الخ، ينكشف لنا الانسان وهو في أضعف حالاته و في أقواها، وكأن الانسان الذي كان بالأمس يختلف عن ذلك الذي أصبحه في اليوم الذي يليه.
ولا أدري حقيقة كيف استطاع نصر الله الغوص بتلك الدقة و ذلك العمق! فهو لم يكتف بالانسان الفلسطيني فقط، و لكنه توسع ليكشف لنا المحتل على حقيقته، بل و كشف لنا كيف تاه أولئك الذين حملوا راية المقاومة يوما و كيف توهوا الانسان الفلسطيني بشعاراتهم المضللة التي كانوا يرفعونها.
****
الخيل و قرية "الهادية" هما العنصران الملازمان للرواية من أولها إلى آخرها.
أما الخيل فكانت هي التي ترسم بطولات الرجال و آثارهم و أما الهادية فكانت القرية التي أفرخت ثائرا بعد آخر و التي صمدت أمام آل عثمان و أمام الانجليز و أمام العصابات الصهيونية ... حتى سقطت في النهاية بسبب الاتفاقات التي رعتها الأمم المتحدة و بيانات القادة العرب ... وكان ثمن صمودها الطويل الكثير من التضحيات و كثيرا من الألم.
وأما الشخصيات فكثيرة، و كل واحد من تلك الشخصيات يمثل شريحة من الانسان الفلسطيني. ولو حاولت تتبع كل شخصية على حدة لضيعت عليكم متعة الغوص في أغوار الرواية بأحداثها التي تحكي قصة شعب كان في تلك الأرض في يوم ما.
وأما "الحمامة"، فإنها الخيل التي تلازمنا خلال الرواية بأكملها، فإن لم تكن في الأحداث فإن طيفها يبقى في الأسطر، ولا يمكن فصلها عن الرواية لانها هي الرواية ...
*****
من الصفحة الأخيرة:
"عمي يا أبو الفانوس نوِّر لي عا العتمة
خوفي الطريق يطول يابا
ويطول معك همي
ويطول معك همي
انحدرت شلالات الدمع على وجه منيرة و أحفادها و عفاف و أولادها و حسين و أولاده و أم الفار، الذين كانوا قد تجمعوا في صندوق تلك الشاحنة البيضاء.
دوت عدة انفجارات، التفتوا، فإذا بالنار تلتهم عددا من بيوت القرية. حدقت العزيزة التي كانت تبكي بصمت مسندة وجهها إلى الحافة الحديدية للصندوق. كانت إحدى القنابل قد سقطت في بيت أبيها، اندلعت النار فيه و سقطت قنبلة أخرى فاشتعل برج الحمام.
راحت تراقب النار التي تتصاعد ملتهمة البرج وما فيه، وعندها رأت ذلك المشهد الذي لن تنساه أبدا...
كان الحمام يطير محترقا، قاطعا مسافات لم تفكر يوما أن حماما بأجنحة مشتعلة يمكن أن يبلغ نهاياتها، وحيثما راح يسقط في البساتين و الكروم و السهول المحيطة كانت نارا جديدة تشتعل. وحينما وصلت العربات إلى تلك النقطة العالية التي تتيح للناس مشاهدة الهادية للمرة الأخيرة، كانت ألسنة الحرائق تلتهم الجهات الأربع."
*****

هناك 12 تعليقًا:

  1. جميل أن المدونة عادت تنبض بالحياة

    جزاك الله خيرا
    ً
    إحترامي

    عمان بن قحطان

    ردحذف
  2. شكرا لك ...

    وتعليقك في الحارة كان السبب الرئيس في تذكري لهذه المدونة. :)

    ردحذف
  3. هل أنت نفسه الفلق المتواجد بيننا بالحارة العمانية يا سعيد ؟؟ اصدقني القول أيها الأغر .

    ردحذف
  4. أنا ذاك ...

    ومن تكون أنت أيها الكريم ؟

    ردحذف
  5. كُنتُ kalashnikov
    واليوم كـ المطر!

    تحيتي ،، وتشرفت كثيراً بمعرفتك .

    ردحذف
  6. كـالمطر ...

    بل أنا الذي تشرفت و سررت بمرورك هنا!

    نلتقي في جنبات الحارة ... :)

    ردحذف
  7. جميل جدا.

    أشكرك كثيرا , وأتمنى أن أعرف اسم الدار التي نشرت هذه الرواية حتى يتسنى لي شراؤها وقراءاتها , هلا أفدتني ؟

    ردحذف
  8. سمية ... أشكر مرورك :)

    الرواية من إصدارات الدار العربية للدراسات و النشر

    ما أستطيع قوله هو أنك لن تندمي على اقتناء هذه الرواية.

    تحياتي :)

    ردحذف
  9. شكرا لك , ستكون هذه الرواية في قائمة الكتب التي سأشتريها من المعرض القادم في الشارقة بإذن الله .

    ردحذف
  10. رائع أنت عندما تكون هنا سعيد المسكري..

    و عندما تكون في الحارة الفلق..

    الآن فقط تشرفت بزيارة مدونتك..

    سأسبح فيها بتأني و اقرأ قراءاتك الرائعة..

    فلا شك أن شخص كالفلق سيكون مفيدا لمثلي..

    لا أدري لماذا أحس أنني أعرفك منذ زمن
    و خاصة أن زميل لي في الدراسة كان اسمه سعيد المسكري..

    دم طيبا ايها الفاضل فأنت فلق..

    بدر الراشدي

    ردحذف
  11. أخي الكريم بدر الراشدي،

    بل أنا المستفيد من مرورك العطر!

    وإذا كنت من خريجي الجامعة، فلربما جلسنا في مقاعد الدراسة معا. :)

    ردحذف
  12. بداية موفقة يا ابا سيف و غلى الامام بخطى ثابتة واثقة متمعنة

    ردحذف