27 أكتوبر 2008

الجانب الآخر ... من القمر!





عندما قرأت خبر وفاة الشاعر محمود درويش، انتبهت إلى شيء عجيب، وهو أنني لا أعرف عنه إلا اسمه. فلا أذكر أنني قرأت له نصاً أو شعراً، ولا أذكر أن سيرته كانت من بين السير التي درستها، فكيف إذن عرفت أنه شاعر؟ وأن شعره يعتبر مدرسة بحد ذاتها؟

لا أدري!

أثارني هذا، وتحمست لما قرأته من مقالات تأبينية مطولة عن شاعرنا، فقررت البحث عن محمود درويش الشاعر والسياسي والانسان، فكانت النتيجة هي أنني اكتشفت الجانب الآخر من القمر، الجانب المظلم الذي لا يراه الانسان بعينه المجردة، ولم يره من بين كل ذي عينين سوى القليل ... أو هكذا تبدّا لي الأمر.

عُرف عن محمود درويش في الستينات و السبعينات بأنه شاعر المقاومة، وكان هو ومجموعة أخرى من شعراء المقاومة، يشكلون أحد الأسس الثقافية التي استندت عليها المقاومة الفلسطينية . فكانوا - كما يقول أحد النقاد - "رافداً ثورياً مواكباً للأحداث وخالقاً لمعالم الإبداع الشعري في أدب الالتزام الثوري". فكان إلتزامهم بالعمل المقاوم في تلك الفترة - شعراً و نثراً - هو الذي طبع في أذهن الناس بأن محمود درويش هو شاعر المقاومة، وأن المقاومة كانت رافده الشعري والنثري.

ولكن هل استمر الشعر المقاوم في أدبيات درويش؟

انتسب محمود درويش في أحد فترات حياته إلى "الحزب الشيوعي الاسرائيلي" و عمل محررًا لصحيفتي الاتحاد و الجديد وهما من صحف الحزب، وعمل محرراً في صحيفة راكاح التي كان يصدرها ذات الحزب. كان محمود درويش "يسارياً" في مواقفه السياسية، وكان منادياً بالتعايش "السلمي" بين الفلسطينيين واليهود، ولم يخف أبدا أنه من الداعين لحل الدولتين وقد نادى بذلك صراحة عام 1988 من خلال إعلان "الاستقلال الفلسطيني". وحتى معارضته لاتفاق أوسلو في عام 1991 لم يكن اعتراضاً على مبادئ الاتفاق الأمنية والإدارية المبرمة، ولكنه كان اعتراضاً على مساحة الحرية التي أعطيت للإنسان الفلسطيني من خلال الاتفاق، فكانت القطيعة المؤقتة المعروفة بينه وبين ياسر عرفات.

تغير المشهد الفلسطيني مع بدء الانتفاضة الفلسطينية الأولى في نهاية الثمانينات، وأصبحت المقاومة الفعلية على الأرض بقيادة الحركات الإسلامية. سحبت حركتا حماس والجهاد بساط المشهد الثوري المقاوم من تحت أقدام الآخرين الذين انسحبوا تماماً من المشهد مع اتفاقية أوسلو في عام 1991م. فهل واكب محمود درويش هذا التطور شعراً؟

يقول بعض النقاد بأنه لم يساير المتغيرات التي طرأت على الساحة، وكانت أيديولوجيته السياسية سبباً في إعراضه عن ذلك عمداً. فمحمود درويش، مع إيمانه السابق و تقديسه المعلن للعمل المقاوم والثورة والشهادة، قد كان يساريا في فكره و شيوعيا في انتمائه الحزبي. وعلى سبيل المثال، فإن درويش لم يكتب شيئاً عندما استشهد أهم رموز المقاومة الفلسطينية الإسلامية أحمد ياسين وعبدالعزيز الرنتيسي وأبو على مصطفى وغيرهم، فهم في رأيه يمثلون "الظلام" و"الرجعية" ويستندون إلى أيديولوجيا لا تتناغم مع ما يؤمن به.

وحتى عندما كتب درويش عن محمد الدرة، فإن شعره لم يكن بتلك القوة التي تناسب لقبه كشاعر للمقاومة، بل كان - كما يقول أحد النقاد - تصويراً للمأساة "دون التدخل المباشر في إنشاء قصيدة الفعل المقاوم".

تقاطع السياسة بالأديولوجيا والأديولوجيا بالنص شكل تحدياً ليس لدرويش وحده ولكن لكثير من الأدباء الذين يسخّرون أقلامهم نصرة لقضية يؤمنون بها. وفي المشهد الفلسطيني فإن التحول المفاجيء بين أديولوجيا ونقيضها -وكلاهما ينتصر للقضية نفسها- قد شكلت بالفعل تحدياً كبيراً لشعراء المقاومة وأولهم محمود درويش. غير أن درويش للأسف الشديد رجّح كفة الأديولوجيا على كفة القضية، فأشاح بوجهه عن المقاومة الفعلية، وهذه -في رأيي- سقطة ما كانت تليق بشاعر المقاومة، ولم أجد ما يسوغها له.


٢١ أغسطس ٢٠٠٨

22 أكتوبر 2008

حوار أدبي مع عبدالرحمن منيف - {الجزء ٢}


لست من أولئك الذين يدعون أنهم يستحضرون الأرواح! ولكنني أعترف بأنني أجريت هذا الحوار بعد ٤ سنوات بالضبط من وفاة الروائي المبدع عبدالرحمن منيف! كان ذلك في الثالث و العشرين من يناير لعام ٢٠٠٨، في منتدى الحارة العمانية.
الجزء الأول من هذا المقال كان سردا لمحطات في حياة منيف. أما هنا، فالمقال حوار، وهو حوار استقيت أجوبته مما كتبه منيف في بعض كتبه. أسئلتي كانت تدور حول الرواية العربية وما يتعلق بها، ولم أتطرق لشيء غير هذا.

فإلى المقدمة و نص الحوار ....

***
عبدالرحمن منيف و الرواية العربية

كلما اشتكى أحد بأنه لا يحب القراءة، تكون نصيحتي المعلبة و الجاهزة دوما: "إبدأ برواية"!
الرواية، ببناءها الحكائي أو الشعري أو السردي و بحبكتها و شخصياتها و رسالتها، يجب أن تكون شيقة و ممتعة للقارئ، لا يصرف في قراءتها جهدا ذهنيا كما يكون في حالة القراءة الفكرية أو العلمية. فالرواية متنفس رحب لمحبي القراءة وهو في ذات الوقت مدخل فسيح وباب واسع للمحجمين عن هذا الواجب المقدس - أي واجب القراءة - إذ أن الرواية تستطيع استقطاب الجمهور (أو الجماهير) على اختلاف أذواقهم و أعمارهم و ثقافاتهم و توجهاتهم ... و تعرف الرواية الجيدة من الرواية السيئة بإقبال الناس عليها و إجماعهم على حسنها و براعة كاتبها، وقلما تجد رواية سيئة و تكون ذائعة الصيت، حتى تلك التي تشتهر بسبب منعها أو ما شابه، فإنها مع مرور الوقت سرعان ما تختفي من أذهن الناس و ألسنتهم ، و ربما تذكر عرضا و يذكرها الناس "بانها الرواية التي منعت" و لا يعرف أحد غير هذا عنها.
أعود إلى عبدالرحمن منيف...
ما هي الرواية بالنسبة له ؟هل هي حبكة روائية فقط ؟
ام أنها رسالة يقدم من خلالها رسائل معينة إلى المجتمع؟
لماذا يقضي منيف سنوات كثيرة وهو يكتب في الرواية الواحدة ؟
ما طبيعة "الهم الروائي" عند منيف و لماذا يكتب ؟
***
نــــــــص الحــــــــوار

ما أهمية الرواية كصنف أدبي أو إنتاج فكري وما هي عوامل نجاح الرواية؟

(الرواية لم تعد سحبات خيالية، و إنما غدت تُؤسَّس على معرفة بالمجتمع و بفضاءاته المتنوعة، ولا أتصور أن تنجح الرواية دون فهم البنى الاقتصادية و الاجتماعية ودون معرفة، ولو بسيطة، بعلم النفس. فالروائي الذي يجلس بمعزل عن الناس و عن الحياة اليومية، مهما كان بارعا، يخرج برواية شعرية لها نمط معين ممكن أن تكون قوية في التعبير بالصور و بالدلالات الخاصة لكنها لا تتناول المجتمع و لا تتناول الحياة بصخبها و تناقضاتها و مشاكلها و همومها. فالرواية أصبحت هي القاطرة التي تشد الثقافة العربية في المرحلة الحالية، وما زالت هذه القاطرة في بدايات انطلاقتها وما زال أمامها فرص غير محدودة من أجل أن تتطور و تنمو و تجرب. على أن هم الروائي ينبغي ألا يكون شكليا فحسب، و إنما هم مركب فبمقدار ما أنا مهتم باللغة كصيغة تركيب، أجدني، أيضا، أهتم بالموضوع و المرحلة التي أعمل عليها و بالقوى و العناصر التي أتوجه إليها. طبعا المتعة ضرورية، فأنا شخصيا أتمتع بكتابة الرواية إلا أن متعتي و متعة الآخر هي في أن أقدم عملا ناضجا بعيدا عن الشعارات المباشرة مشغولا بهدوء، تماما مثل الحرفي الذي ينسج بغزل ناعم. فمن المهم أن تصل المتعة إلى القارئ فلذلك احرص أن تكون ثمة نوع من التوازي أو التكافؤ بين المرسل و المرسل إليه، رغم أن المتلقي شخص مجهول. فالأيام و الأسابيع التي يقضيها المرء في قراءة مدن الملح ، مثلا، ينبغي أن تقدم للقارئ متعة من نوع معين و فائدة.)

كيف يكتب منيف رواياته؟
(إحدى مشكلاتي أنني عندما أبدأ بالعمل على رواية أدخل في حالة خاصة و أصبح عصبيا و يجوز أن تقال لي أشياء كثيرة لا أسمعها. أحيانا يكون هناك شخصية ثانوية أريد أن أنميها و أريد أن أعطيها دورا. زينب كوشان في أرض السواد ، مثلا، رغم أنها شخصية ثانوية، إلا أني شعرت أنها يمكن أن تكون طريفة من ناحية و تضيء جانبا معينا من ناحية أخرى، فزينب لها عالم خاص بمقدار ما هو واقعي هو خيالي. وكثيرا ما تتمرد الشخصية، مهما كنت قادرا على ضبطها ووضعها في حيز معين فهي تكسر القوالب و بالتالي يصبح الهم هو في مرضاتها و التفاهم معها. فشمران العتيبي - في مدن الملح - كان رجلا من الناس العاديين لكنه عندما سجن ابنه ظلما خرج من جلده و عادى السلطة و أراد محاربتها وحيدا.)

هل يستمتع منيف في كتابة الرواية ؟

( طبيعي لولا المتعة الموجودة فيها لكان جميع الروائيين هجروها. إنها ليست سهلة. لكنها مثل الحُب، الحب تعاني فيه أحيانا، غير أنه يولد شعورا بالغبطة الداخلية فيه الكثير من التعويض، كما أن في استجابة القارئ تعويض.)

كيف تتحدد أهمية "الشخصية" في الرواية ؟

(إن أهمية الشخصية في الرواية لا تقاس و لا تحدد بالمساحة التي تحتلها، و إنما بالدور الذي تقوم به. وما يرمز إليه هذا الدور. و أيضا مدى الأثر الذي تتركه في ضمير القارئ، مما يدفعه للتساؤل و المقارنة، تمهيدا لتصويب موقفه، في الواقع، و بالفعل، تجاه هذا الموضوع الأساسي.أما اعتبار الكم، سواء من حيث المساحة أو العدد، الأساس في استنتاج الموقف، ثم الحكم عليه، فكثيرا ما يؤدي إلى فهم خاطئ، وبالتالي إلى نتائج خاطئة. لأن الشخصية الواحدة، وبعض الأحيان اللحظة الواحدة في تصرف الشخصية، يمكن أن تغني عن العدد الكبير و المساحة الشاسعة، ليس ذلك فقط، إن صمت الشخصية في اللحظة المناسبة، وبعض الأحيان غيابها، أكثر اهمية ودلالة من الكثافة المجانية.)

كيف يرى منيف بطل الرواية ؟

( لقد تراجع، إذا لم أقل انه انتهى، بالنسبة لي، البطل الفرد، البطل الذي يحتل كامل المسرح، وإذا وجد آخر فمن أجل خدمة دوره أو إظهار عبقريته. أصبح للبطولة، بالنسبة لي، مفهوم آخر و دور مختلف، يمكن أن ألخصه بما يلي:البطل هو الشخص الضروري، في الوقت المناسب، والذي لا يُغني عنه أي شخص آخر، أيا كانت المساحة التي يشغلها، أو الوقت الذي يستغرقه وجوده.البطل هو الشخص الذي يتصرف بطريقة لا يستطيعها غيره، أن يعبر عن موقف، يعطي مثلا، يقول كلاما هاما ... كل ذلك في اللحظة الضرورية الحاسمة. وليس البطل ذلك "المخلوق المصنوع" الذي يبدوا حكيما و قويا و قادرا في كل وقت، ولا مانع من أن يتصف بخفة دم و اللباقة عند الحاجة!إن بطلا من هذا النوع أحد بقايا العصور الوسطى، أو صناعة أمريكية للتصدير إلى البلدان المتخلفة في المرحلة الحالية. وهذا البطل، إضافة إلى أنه غير موجود، يولّد أوهاما و تشويشا، كما أنه يشغل وقتا فسيحا، لكنه لا يعني شيئا في النهاية، ومن الجدير بالرواية أن تتفاداه إذا أرادت أن تعبر عن الحقيقة و عن الحياة الفعلية الموّارة بالبطولات الصادقة التي تستحق الاهتمام و الالتفات، بدل العيش في الوهم)

هل لنا بأمثلة على ما تقول من رواياتك يا منيف ؟

( "مرزوق" في رواية "الاشجار و اغتيال مرزوق"، أحد المحاور الهامة التي تنهض عليه الرواية، علما أن هذا "البطل" لا يحتل في الرواية كلها أكثر من بضعة سطور.
أما في رواية "الشرق المتوسط" فإن البطل الحقيقي امرأة، هي الأم، رغم المساحة المتواضعة التي تشغلها، ورغم الضجة التي يحدثها الرجل.
وفي "سباق المسافات الطويلة" تحتل إمرأة، وليس المرأة، مساحة كبيرة، لكن تبدو في النهاية كدمية، ولا تتعدى أن تكون ممثلة لدور كلفها به الرجال.
أما في "مدن الملح"، الجزء الأول، وهذا يلخص الكثير مما أريد أن أؤكده، فإن بعض شخصيات الرواية، رغم المساحة المحدودة التي تشغلها، تحدد موقفا و تلخص فكرة، فمتعب الهذال يغيب في الربع الأول من الرواية، لكن وجوده، وكثافة هذا الوجود، يظلان طاغيين، حتى ارتأى الكثيرون ضرورة حضوره و استمراره، وكذلك الحال بالنسبة لزوجته، وضحة، فحين دخلت في الصمت الكبير، كانت أكثر بلاغة في التعبير، وأكثر جرأة في الفعل، إذ حلت مكان متعب، وشغلت القسم الاكبر من دوره، كل ذلك جرى في ظل الصمت الذي فُرض عليها أو أرادته.)

***
نشكرك يا منيف على هذا الوقت، ونسأل الله أن يرحمك في مثواك الأخير.
الكثير مما يمكننا مدحك به قليل، فلن توفي الكلمات حقك لتعبر عما قدمت للرواية العربية.



09 أكتوبر 2008

العدالة الاجتماعية في الإسلام - ٢



من الواقع التاريخي في الإسلام - ١

تحدثنا في الجزء الأول من هذا المقال عن الفصول التأصيلية للعدالة الاجتماعية من منظورها الإسلامي كما يراها قطب. وفي هذا الجزء سنسلط الضوء على نماذج من الواقع التاريخي للمسلمين كما جاء في الكتاب ... ويشكل هذا الفصل وحده ربع الكتاب، وأهميته نابعة من النماذج المختارة والتي لا تدع مجالا للشك في عظمة هذا الدين، وفعله الجبار في نفوس الأولين والذين جاؤوا من بعدهم.
.
و قد ارتأيت أن أتحدث عن هذا الفصل في جزئين منفصلين. الأول نذكر فيه الملامح العامة لهذا الفصل وما اشتمل عليه، ثم أختم هذه القراءة في الجزء الثاني بالتركيز في ما عرف بمرحلة "الفتنة" من التاريخ الإسلامي، و تسليط الضوء على قراءة قطب لتلك الحقبة وما تبعها.
.
لنقرأ سويا ما جاء في هذا الفصل ...
.
***
.
الشخصية الإسلامية
.
من المهم أولا أن نفهم رؤية قطب للبطولات التي صاحبت الشخصية الإسلامية في مختلف مراحلها... يقول قطب: "هناك ما يصح أن نطلق عليه باطمئنان : ((روح الإسلام))!" ... وهذا الروح هو السر الذي أنجب للإسلام "كل هذا الحشد من الشخصيات العجيبة".... "هذا الروح هو الذي يرسم الأفق الأعلى الذي يتطلب الإسلام من معتنقيه أن يتطلعوا إليه، و أن يحاولوا بلوغه، لا بتنفيذ الفرائض و التكاليف فحسب، ولكن بالتطوع الذاتي لما هو فوق الفرائض و التكاليف"...... "أما دراسة هذه البطولات و الخوارق مفرقة، دون وصلها بهذا المنبع الأصيل٫ فأخشى أن تكون ناقصة و مضللة عن الحقائق الأساسية في الكون و الحياة، برجعها سر عظمة كل شخصية إلى عبقرية خاصة بها، و إهمال الروح الأول المشع المؤثر، ذلك الروح الذي مس أرواح الأبطال، كما مس عجلة الزمن، وطبائع الأحداث، و دفعها جميعا في تيار حي قوي جياش، تنغمر في لجه العبقريات و الوقائع و الأحداث"
.
بعد هذا يستوقفنا قطب للحديث في "شأن آخر أعمق في ضمير الإسلام" وهو "اليقظة الدائمة التي يفرضها الإسلام على ضمير الفرد، و الحساسية المرهفة التي يثيرها في شعوره". ثم يذكر لنا نماذج متفرقة للتدليل على هذه اليقظة، فيذكر لنا ماعز و المرأة الغامدية و "الباعث القوي الذي غلب في أنفسهما على رغبة الحياة". ثم قصة عزل خالد بن الوليد عن إمارة الجيش في الشام - وهو الذي لم يهزم في معركة قط - و كيف تلقاها بروح المؤمن المحتسب "فبقي في المعركة بالعزيمة ذاتها"، ومن جانب آخر الباعث الذي جعل عمر بن الخطاب يأمر بهذا الأمر، فقد "أخذ على خالد في خلافة أبي بكر أشياء ثار لها ضميره، وهاجت له حساسيته" وهو تسرع خالد في قتل مالك بن نويرة و إعراسه بإمرأته و أيضا زواجه من ابنه مجاعة في حرب مسليمة الكذاب و قد قتل ألف و مئتين من خيرة الصحابة.
.
قطب و محمد حسين هيكل
.
يقف سيد وقفة مطولة لمناقشة ما قاله هيكل في كتابيه "الصديق أبو بكر" و "الفاروق عمر" حول اختلاف الرأي بينهما في إبقاء خالد أو عزله، إذ يرى هيكل "أنه كان اختلافا في السياسة التي يجب أن تتبع في هذا الموقف" فعمر "يرى أن خالدا عدا على امرئ مسلم، ونزا علة امرأته قبل انقضاء عدتها، فلا يصح بقاؤه في الجيش حتى لا يعود لمثلها فيفسد أمر المسلمين" و أما أبو بكر " فكان يرى أن الموقف أخطر من أن تقام لمثل هذه الأمور وزن" ... ثم يرد قطب على هذه المقولتين و تفصيلهما فيقول:"هذه قولة رجل لم تمس روحه روح أبي بكر ولا روح عمر، ولم تستطع حياته في جو الإسلام فترة أن تنتزعه من ملابسات القرن العشرين، وما فيه من التواءات و احتيالات و انتهازات فرص على حساب الضمير أو حساب الحق أو حساب الدين". ثم يدافع عن عمر و أبي بكر "مثل هذا قد يصنعه ملوك بني أمية أو ملوك بني العباس، ويعده الناس منهم دهاء و سعة حيلة، فأما عمر فلا، وأما أبو بكر فلا كذلك. وإنما يظن بعضهم بهما هذا الظن لضحالة روح العصر و هبوط مقاييسه و معاييره!"
.
ويستمر قطب في ذكر نماذج علو الروح الانسانية في ضمير المسلم، فيصور لنا مشهد عمر بن الخطاب و هو يحمل قربة ماء على ظهره في السوق، وعندما يسأل يقول "أعجبتني نفسي فأحببت أن أذلها". ثم يذكر علي بن أبي طالب "وهو يرعد من البرد في الشتاء، ثم قصة أبو عبيدة مع جنده في عمواس و قد أصابها الطاعون فيرفض أن يترك جنده لننجاة بجلده .... وكلها أمثلة للتأكيد على حياة ضمير أولئك الأوائل، وكيف فعل الاسلام فيهم فعلته، فكانوا خير أمة أخرجت للناس!
.
نماذج العدالة الاجتماعية
.
أما عن نماذج العدالة الاجتماعية في الإسلام، فقد أورد قطب عدة موضوعات رئيسية منها انبثقت هذه النماذج، وهذه الموضوعات هي:
١- الرقيق و معاملتهم
٢- معاملة الأعلين من الناس
٣- معاملة البلاد المفتوحة
٤- الرحمة و البر و التكافل الاجتماعي
.
ولم تقتصر النماذج على العصر الذهبي أو الذي يليه كما قد يتبادر إلى الذهن، بل اشتملت على نماذج متفرقة من التاريخ الإسلامي منذ عصر النبوة إلى التاريخ القريب من عصرنا هذا. وكل هذه النماذج تشير إلى أن الخير باق في الأمة، ولكن نحتاج لمن يبرزها للناس لكي تتطلع نفوسهم إلى بلوغ ذلك العلو الذي وصل إليه ليس الصحابة فحسب، ولكن أناس مثلهم حولهم و بينهم، وصلوا إلى ما وصلوا إليه بضميرهم الإسلامي اليقظ الحساس!
.
***
.
في الجزء الثالث من هذا المقال ستكون القراءة منحصرة في المنطقة المحظورة من التاريخ الاسلامي كما ذكرت من قبل، و سيتركز الحديث حول سياستي الحكم و المال بعد وفاة الرسول صلى الله عليه و سلم. وقد وجدت هذه الصفحات المتبقية أكثر حرارة من غيرها، لأن سيد قطب خالف فيها بعض المسلمات التي سلمت بها بعض الفرق الاسلامية في قراءتها للتاريخ الإسلامي. بل إن آرآء قطب التي سنذكرها في الجزء الثالث كانت بابا لهجوم شرس على سيد قطب نفسه!
.
يقول إبن باز تعليقا على ما جاء في كتاب "كتب و شخصيات" لقطب، و قد أورد فيه كلاما شبيها بالذي أورده في كتابنا هذا: "كلامه في الصحابة خبيث، و يجب أن تمزق كتبه"!
..
فما الذي قاله قطب ؟ و لماذا أغضب رأيه علماء السلفية الحديثة تحديدا ؟ هل في كلامه مخالفات حقا ؟ أم أن رأيه المضبوط البنيان و القوي الحجة شكل خطرا على ما حاول "وعاظ السلاطين" على مر التاريخ رسخه في العقل الجمعي للمسلمين؟
.
هذا ما سنقرأه سويا في الجزء الثالث من هذه القراءة ...