13 سبتمبر 2008

عـبـدالـرحـمـن منـيـف (1933 - 2004) {الجزء الأول}


"إنه وادي العيون ..."
.
كانت هذه العبارة أول عهد لي مع الروائي الكبير عبدالرحمن منيف في ملحمته الرائعة "مدن الملح". كنت قد قرأت الرواية و أنا في سن لا يسمح لي بفهم أبعاد الرواية و مراميها، فقرأتها كرواية فقط ليس إلا. ومع ذلك فقد أخذت الرواية لبي و صرت كالحالم، جسده مع الناس و كيانه في مكان آخر تماما. كان - في حلمي - يترائ لي متعب الهذال و هو يطلق النار من بندقيته فرحا بالمولود. كنت أراه وهو يمتطي ناقته العمانية البيضاء يجوب الصحراء، يظهر فجأة و يختفي فجأة. كانت نفسي و مشاعري تغضب حين يغضب و تفرح حين يفرح، كيف لا وهو يمثل الشخصية التي كانت نفسي تتوق إلى تقمصها ؟!
.
كنت مع الدكتور صبحي المحملجي وهو في مكتبه في الصحراء - التي أصبحت شبه مدينة أو قل صحراء مشوهة - يخطط و يحلم، كنت معه وهو في أحد المدن الأوروبية يهذي و لا يلوي على شيء بعدما تحطمت خططه و أحلامه و آماله.
.
استطاع هذا الروائي بعمله أن يقنعني دون مشقة - مع صغر سني - بأن هناك روايات أخرى غير القصص البولوسية، تعطيك من التشويق و الإثارة ما لا تستطيعه روايات الخيال العلمي. فكانت مدن الملح سببا لقراءات أخرى و مضامير جديدة لم أكن لأجرؤ على دخولها أو اقتحامها لولا هذه الرواية. أعدت قراءة مدن الملح و قرأت بعدها كل أعمال منيف الروائية، اللهم إلا رواية "أم النذور" التي لم أحصل عليها إلا مؤخرا. فكان لكل رواية طعم و أبعاد و آثار في النفس تعجز الكلمات عن وصفها.
.
***
.
كانت تلك مقدمة لا بد لي منها لأبين سبب العلاقة الحميمية التي تجمعني بهذا الكاتب الكبير، و السبب الذي يجعلني أحتفي به بعد مرور أربع سنوات على وفاته، وهي كلمات لا توفي حقه و لا تصور ما شعرت به حقا ولكنها بضاعة مزجاة لتلك المشاعر الجميلة، وعرفانا بقدر الروايات التي قرأتها و كاتبها الذي برع في التأليف الروائي.
.
***
.
ولد عبدالرحمن منيف - لأب و أم نجديان - عام 1933 في مدينة عمّان بالأردن ونشأ فيها و ترعع إلى أن أكمل دراسته الثانوية. و يبدو أنه قد ربطته علاقة وثيقة جدا بهذه المدينة - بعد ذلك بفترة - فقد كتب كتابا حول "سيرة مدينة" حيث كانت عمّان محور الكتاب و موضوعه. وفي حواره الأخير كان قد سُئل عن مدى ارتباطه بعمّان في تلك الفترة، فقال:" في هذه الفترة التي نتحدث عنها, كان من الصعب أن يكون للإنسان ارتباط حقيقي بعمّان، فهي كانت أقل من أن تربط الناس و كانت الروابط الأخرى، الخفية ربما، هي الأقوى كالأسرة و العشيرة و المكان الذي قدم منه الناس و الأقرباء الذين كانوا يشكلون الإطار العام".
.
بعد عمّان، انتقل منيف إلى العراق عام 1952 ليكمل دراسته الجامعية ولكنه طرد منها:"غادرت بغداد في ديسمبر من عام 1955 وكنت في السنة الثالثة في كلية الحقوق. و للتوضيح، قبل ذلك بفترة وجيزة، في الصيف و بعد توقيع حلف بغداد، ألقي القبض علي مع مجموعة من الطلاب العرب ممن كان عليهم ملاحظات أو كانوا مناوئين للسلطة، و أودعنا السجن لبضعة شهور ثم طردنا بشكل جماعي"
.
كان منيف من أولئك الذين يرفضون السلطة بأي شكل من الأشكال ويناوؤن الأنظمة الظالمة مهما تقربت منه تلك السلطة و تلك الأنظمة، و ذلك لارتباط السلطة - بشكل عام - بالقهر و التعذيب و الديكتاتورية."كنا نخاف من السلطة كسلطة و نحاول جاهدين أن نبقى على مسافة منها"
.
بعد بغداد انتقل منيف إلى القاهرة ليكمل دراسته و منها إلى بلغراد ليحصل على شهادة الدكتوراه في اقتصاديات النفط. عمل في دمشق و من ثم في لبنان، ثم رجع مرة أخرى إلى العراق عام 1975م. بعدها غادر منيف إلى فرنسا عام 1981 ليكرس نفسه للكتابة. وكانت محطته الأخيرة دمشق التي بقي فيها من عام 1986 حتى جاءته المنية في مثل هذا اليوم عام 2004.
.
كتبت هذا الموضوع في الحارة العمانية يوم ٢٣ يناير ٢٠٠٨م وأعدت نشره هنا بقليل من التصرف.

هناك تعليق واحد:

  1. أخي سعيد
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    مبارك عليك المدونة

    عهدي مع الروايات لم يتعدى (كثيرا) سلسلة "كتاب الجيب" على شاكلة "رجل المستحيل" وغيرها!!

    ولكن لعلك تقنعني يوما أن أقرأ شيئا آخر!

    "مدن الملح" تبدو مشوقة نوعا ما وخاصة التناغم مع الصحراء، والتي أجدها ملهمة جدا.

    أخوك،
    حمد العزري
    www.halazri2006.jeeran.com

    ردحذف