03 أبريل 2009

رومــــــــــا


الوصــــول

عندما حطت بنا الطائرة في روما و استقبلنا رجال الأمن بزيهم الأزرق المائل إلى السواد ... ظننت بأن هذه الرحلة ستكون مختلفة عن سابقاتها من الرحلات، ربما ببعض المفاجآت مع رجال الأمن، خاصة وأن آثار ١١ سبتمبر ما زالت تنتشر كالنار على الهشيم في الإجراءات التي تبتدعها عقول رجالات الأمن في مطارات العالم. كنت واثقا بأن فريق المهنيين الذي كان معي لا علاقة له بالإرهاب، لا من قريب ولا من بعيد. فاطمأنت نفسي بأن هذه الإجراءات ما هي إلا روتين ربما يكرهها أصحاب البدلات الزرق أكثر من ضيقنا بها!

شغَلتُ فكري بمتابعة الناس من حولي، مستحضرا الموجود في فكري عن الطليان، من حبهم للفن المعماري و الرسم و بروزهم فيهما، وتفوقهم في صناعة البيتزا و براعتهم في الأزياء و الموضة و الموسيقى. كان لدي أيضا انطباع - لا أدري مصدره - هو أن الطليان هم بدو أوروبا! لا أدري مظاهر هذه البداوة ولا لماذا رُبط الطليان بها، لكنها كانت خاطرة أعترف بأنها زالت حالما خرجت من المطار.

انتهت إجراءات رجال الأمن و سلمونا جوازاتنا، فحييناهم تحية حارة من الأعماق و سارعنا بالرحيل قبل أن يغيروا رأيهم. كانت الزيارة الأولى لي ولمن كان معي، ولكن لم نجد صعوبة في الحصول على محطة القطار و التحرك بإتجاه المدينة، مدينة روما التاريخية. في محطة الوصول استقبلنا شاب ذو أصول مغربية، دلنا على فندق قريب لقاء أجر بخيس. ما الذي دعاه لمثل هذا العمل؟ وكم يجني من المال ؟ لم أهتم كثيرا للحصول على جواب فقد كانت الخدمة بالنسبة لنا مفيد جدا لما وفرته علينا من وقت و عناء حمل الأمتعة من مكان إلى آخر بحثا عمن يأوينا خلال الليل.

المديــــنة
قضينا ليلتين في روما كانتا من أجمل الأيام التي قضيتها في رحلة سياحية خارج وطني، فقد أبهرتني حقا تلك المباني و المدن التي شيدت في بدايات القرن الأول، وما صاحبها من هندسة و معمار يعتبر متطورا في هذا القرن، فكيف كانت وقتذاك ؟! كنا نجول في أورقة الحصارة الرومانية مشيا على الأقدام، فالمدينة القديمة كانت صغيرة نسبيا، والمشي من طرفها إلى طرفها الآخر لم يكن ليستغرق أكثر من ساعتين أو ثلاثة. حاولنا استخدام قطارات الميترو المكتظة، ولكنها كانت خطيرة بسبب كثرة النشالين الصغار الذين كنا نضبطهم وأيديهم الخفيفة المتمرسة تداعب جيوب الركاب بحثا عن غنائم، ولا يلبثوا قليلا حتى يحثوا الخطى بعيدا وهم يتبادلون الضحك متطلعين لاقتسام ما غنموه من السواح الذين سلبت المدينة عقولهم بجمالها و بهائها!

من المعالم التي شدتني إليها و جذبتني بعيدا في عالم الخيال هو المسرح الروماني العملاق. فالمسرح لم يكن أعمدة و خراسانات برع في تصميمها و تشييدها الرومان فحسب، بل كان تاريخا ينطق بعظمة الحضارة التي شيدتها ومدى تطور العلوم الهندسية و المعمارية في هذا الوقت المبكر من التاريخ. فعلى سبيل المثال، صُمم المسرح ليتحمل الهزات الأرضية، وقد أثبت التاريخ قدرة هذا البناء الضخم على البقاء مع عوامل التعرية الطبيعية القاسية التي مر بها. كما صممت أرضيته الخشبية المغطاة بالرمل لتتحمل أوزان شتى أنواع الحيوانات في العروض التي برع في إبداعها الرومان، هذا مع وجود طابقين سفليين يقعان تحت هذه الأرضية تُحجز فيهما الحيوانات و يقبع فيها المقاتلون قبل بداية العروض المميتة. وأما المقاعد فقد كانت تتسع لخمسين ألف متفرج، ويقال بأن المسرح كان يحوي غطاء خشبيا في أعلاه يرفع بآلات يدوية مثبتة على الأرض، يغطي المسرح بالكامل لحماية المشاهدين من أشعة الشمس وزخات المطر! كان هذا مدهشا بما فيه الكفاية، غير أن دهشتي زادت لمّا حدثنا مرشدنا السياحي عما كان يدور في المسرح من عروض ومفاجآت.

قال المرشد الذي كان يتحدث الانجليزية بطلاقة، أن من أغرب العروض التي عرضت في المسرح في ذلك الزمان الغابر هو يوم أتي بإثني عشر أسدا حبسوا في الأقفاص بلا طعام، ثم أتي بإثني عشر فيلا ممتلأً ووضعوا في المسرح قبل أن يطلق سراح الأسود الجائعة. ولكم أن تتصوروا الملحمة التي دارت بين الفريقين، ومدى الدهشة التي أصابت الحضور وهم في الغالب لم يروا مثل هذه الحيوانات من قبل! لم أمنع لساني من البوح بما شغلني: من الذي فاز؟! قال المرشد: لا يهم، فالكل في نهاية العرض يُقتل! ... كانت الأرواح ليست بذاك الأهمية، فكمن من محارب قَتل و قُتل لإلهاب مشاعر المشاهدين في المسرح، بل يقال بأن أكثر من ٥٠٠ ألف مقاتل قتل في المسرح، ناهيك عن مئات الآلاف من الحيوانات التي سفكت دمائها دون أن تدري ماذا جنت لتذبح هكذا. والهدف - كما أخبرنا المرشد - هو شغل الناس بالملهيات حتى يستتب الأمر للإمبراطور الروماني. حتى أنه كان هناك ٥٢ من مختلف أنواع الملاهي في مدينة لا يقطنها سوى بضع مئات من الآلاف من الناس!


ومن الحوادث الطريفة التي مرت بنا في أعتاب المسرح الروماني، هو حينما جائنا ثلاثة من الطليان متقنعين بثياب الحرس الروماني القديم سائلين إن كنا نريد التصوير معهم. نظرنا إلى بعض ثم قررنا دفع واحد منا للتصوير، رفض في البداية ثم مع إلحاحنا قبل على مضض دون أن ينتبه للإبتسامة التي علت شفاهنا عندما أولانا ظهره. بدأنا في تصويره و الرومان الثلاثة يحيطون به مبتسمين أولا، ثم في وضعية المقاتلين، ثم قبضوه و كأنهم يريدون ذبحه، وأخيرا واضعين السيف بين رجليه وكأنهم ينوون خصيه! ونحن - المشاهدين - في كل هذا ما بين القهقهة و التصوير، لا ندري أنضحك على ما يفعله الرومان الثلاثة أم على نظرة البلاهة و الحمق التي علت وجه صاحبنا! (لولا الحياء و الاحترام الذي أكنه لصاحبي هذا لوضعت الصورة هنا لتشاركوني الضحك)

بعد أن انتهى صاحبنا ودفع للصوص الثلاثة ٤٠ يورو (أي ٢٠ ريالا!) حاولوا الحصول على زبون آخر، ولكن هيهات أن يضحكوا علينا كما فعلوا بصاحبي. وكان مما قالوه بأنكم أنتم العرب تمتلكون آبار النفط في حدائق بيوتكم الخلفية، ولا تريدون دفع ما عندكم من مال إلا لأسامة بن لادن و أمثاله! كان لزاما علينا الرد، ولم يكن غيري ممن معي يملك تلك الإندفاعة الحمقاء التي عادة ما تودي بصاحبها إلى ما لا تحمد عقباه، فقلت بحس المداعب الضاحك: أستطيع أن أوصل المبلغ إلى أسامة إن أردت؟! ... نظروا إلينا شذرا وقرروا الرحيل، ونحن أيضا سارعنا بالرحيل بعد أن عاد إلي شيء من العقل و حسبت ما تستطيع هذه الكلمات زجي إليه!



الرحـــــيل

زرنا خلال اليومين مواقع عدة، مثل الفاتيكان، أصغر دولة في العالم و معقل الكنيسة الكاثلوكية، و مررنا ببناء البرلمان الروماني، و أطلال الحضارة الرومانية، و العديد من الكنائس الجميلة و القصور البهية، وكذلك مقر "الصرف الصحي" الذي كان يأخذ المياه بعيدا عن المدينة وما زال يعمل إلى يومنا هذا! ولم يفتنا زيارة مبنى في أسفله بحيرة جميلة يقال بأن من يرمي فيها بضعة قروش لا بد أن يجد السبيل إلى قلب من يحب ، فرمينا مقلدين لا مؤمنين، مع أن كل ما في روما كان ينطق برومانسية لم أشهد لها مثيلا في مدن أوروبا الأخرى. ولم يفتنا أيضا زيارة قوس النصر الجميل الذي شيد بعد انتهاء الحرب العالمية.

انتهت الزيارة سريعا، وقررت بأن العودة إلى روما شيء لا بد لي منه، فقد بهرتني بجمالها الخلاب و مبانيها الأنيقة و عبقرية معمارييها و مهندسيها وروعة فنانيها و رساميها. انطلق القطار عائدا بنا إلى المطار، وفي بالي سؤال ملح: كيف سقطت إمبراطورية هكذا كان شأنها وتلك كانت قوتها و عبقريتها؟ ما هي عوامل سقوطها؟ وكيف نهض بها أبناؤها من جديد؟ فتذكرت قول المولى الحق في كتابه الكريم: ((وتلك الأيام نداولها بين الناس))!




هناك 4 تعليقات:

  1. شكرا لبعثك فيني ذكرى لأيام بعيدة
    زرت ايطاليا هذا البلد الجميل منذ اعوام عديدة ، كنت في الابتدائية وقتها . اول بلد اسافر إليه . وإلى اليوم يحتل المرتبة الاولى في قلبي ..
    سأعود إليه مرة أخرى ، فهو يستحق

    شكرا لهذه الاضاءة الجميلة يا سعيد

    ردحذف
  2. مسقطية الهوى ... أشكر مرورك الكريم هنا.

    إذا كانت روما قد علقت في قلبك وأنت لم ترها إلا في الصغر، فكيف ستكون زيارتك الآن؟!

    أخشى عليك أن تقرري المكث والا ستقرار هناك لما ستجدينه من الجمال. ;)

    تحية لك ...

    ردحذف
  3. أخي العزيز سعيد
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    حمدا لله على سلامتك وسعدت بانك قضيت وقتا ممتعا في روما

    كما تعلم، عشقي للكرة والطعام واللغة الإيطالية كبير
    ولذلك قضيت شهر عسلي فيها اسبوعين عام 2002

    ولم نشبع منها! زرت روما والفاتيكان وسيينا وفلورنسا وفينيسيا وسان مارينو وبارما وميلانو وغيرها.. ما أروع إيطاليا ولا بد لمن يزورها أن يكرر الزيارة.

    بدو أوروبا اظنها صحيحة فقد اخبرني مضيفنا العماني هناك انهم كالعرب في المواعيد ويحبون الإجازات حبا جما!!

    اقترح ان تكون زيارتك القادمة لإيطاليا مع زوجتك فقط، ولا تنس ان تزور مدينة فينيسيا (البندقية) :)

    أخوك،
    حمد العزري

    ردحذف
  4. أخي حمد،
    في انتظار روائع رحلتك التي قمت بها في إيطاليا. لا بد أنه هناك شيء ما تستطيع مشاركتنا إياه على الرغم من أن الرحلة كانت شهر عسل!

    :)

    تحياتي.

    ردحذف