22 أكتوبر 2008

حوار أدبي مع عبدالرحمن منيف - {الجزء ٢}


لست من أولئك الذين يدعون أنهم يستحضرون الأرواح! ولكنني أعترف بأنني أجريت هذا الحوار بعد ٤ سنوات بالضبط من وفاة الروائي المبدع عبدالرحمن منيف! كان ذلك في الثالث و العشرين من يناير لعام ٢٠٠٨، في منتدى الحارة العمانية.
الجزء الأول من هذا المقال كان سردا لمحطات في حياة منيف. أما هنا، فالمقال حوار، وهو حوار استقيت أجوبته مما كتبه منيف في بعض كتبه. أسئلتي كانت تدور حول الرواية العربية وما يتعلق بها، ولم أتطرق لشيء غير هذا.

فإلى المقدمة و نص الحوار ....

***
عبدالرحمن منيف و الرواية العربية

كلما اشتكى أحد بأنه لا يحب القراءة، تكون نصيحتي المعلبة و الجاهزة دوما: "إبدأ برواية"!
الرواية، ببناءها الحكائي أو الشعري أو السردي و بحبكتها و شخصياتها و رسالتها، يجب أن تكون شيقة و ممتعة للقارئ، لا يصرف في قراءتها جهدا ذهنيا كما يكون في حالة القراءة الفكرية أو العلمية. فالرواية متنفس رحب لمحبي القراءة وهو في ذات الوقت مدخل فسيح وباب واسع للمحجمين عن هذا الواجب المقدس - أي واجب القراءة - إذ أن الرواية تستطيع استقطاب الجمهور (أو الجماهير) على اختلاف أذواقهم و أعمارهم و ثقافاتهم و توجهاتهم ... و تعرف الرواية الجيدة من الرواية السيئة بإقبال الناس عليها و إجماعهم على حسنها و براعة كاتبها، وقلما تجد رواية سيئة و تكون ذائعة الصيت، حتى تلك التي تشتهر بسبب منعها أو ما شابه، فإنها مع مرور الوقت سرعان ما تختفي من أذهن الناس و ألسنتهم ، و ربما تذكر عرضا و يذكرها الناس "بانها الرواية التي منعت" و لا يعرف أحد غير هذا عنها.
أعود إلى عبدالرحمن منيف...
ما هي الرواية بالنسبة له ؟هل هي حبكة روائية فقط ؟
ام أنها رسالة يقدم من خلالها رسائل معينة إلى المجتمع؟
لماذا يقضي منيف سنوات كثيرة وهو يكتب في الرواية الواحدة ؟
ما طبيعة "الهم الروائي" عند منيف و لماذا يكتب ؟
***
نــــــــص الحــــــــوار

ما أهمية الرواية كصنف أدبي أو إنتاج فكري وما هي عوامل نجاح الرواية؟

(الرواية لم تعد سحبات خيالية، و إنما غدت تُؤسَّس على معرفة بالمجتمع و بفضاءاته المتنوعة، ولا أتصور أن تنجح الرواية دون فهم البنى الاقتصادية و الاجتماعية ودون معرفة، ولو بسيطة، بعلم النفس. فالروائي الذي يجلس بمعزل عن الناس و عن الحياة اليومية، مهما كان بارعا، يخرج برواية شعرية لها نمط معين ممكن أن تكون قوية في التعبير بالصور و بالدلالات الخاصة لكنها لا تتناول المجتمع و لا تتناول الحياة بصخبها و تناقضاتها و مشاكلها و همومها. فالرواية أصبحت هي القاطرة التي تشد الثقافة العربية في المرحلة الحالية، وما زالت هذه القاطرة في بدايات انطلاقتها وما زال أمامها فرص غير محدودة من أجل أن تتطور و تنمو و تجرب. على أن هم الروائي ينبغي ألا يكون شكليا فحسب، و إنما هم مركب فبمقدار ما أنا مهتم باللغة كصيغة تركيب، أجدني، أيضا، أهتم بالموضوع و المرحلة التي أعمل عليها و بالقوى و العناصر التي أتوجه إليها. طبعا المتعة ضرورية، فأنا شخصيا أتمتع بكتابة الرواية إلا أن متعتي و متعة الآخر هي في أن أقدم عملا ناضجا بعيدا عن الشعارات المباشرة مشغولا بهدوء، تماما مثل الحرفي الذي ينسج بغزل ناعم. فمن المهم أن تصل المتعة إلى القارئ فلذلك احرص أن تكون ثمة نوع من التوازي أو التكافؤ بين المرسل و المرسل إليه، رغم أن المتلقي شخص مجهول. فالأيام و الأسابيع التي يقضيها المرء في قراءة مدن الملح ، مثلا، ينبغي أن تقدم للقارئ متعة من نوع معين و فائدة.)

كيف يكتب منيف رواياته؟
(إحدى مشكلاتي أنني عندما أبدأ بالعمل على رواية أدخل في حالة خاصة و أصبح عصبيا و يجوز أن تقال لي أشياء كثيرة لا أسمعها. أحيانا يكون هناك شخصية ثانوية أريد أن أنميها و أريد أن أعطيها دورا. زينب كوشان في أرض السواد ، مثلا، رغم أنها شخصية ثانوية، إلا أني شعرت أنها يمكن أن تكون طريفة من ناحية و تضيء جانبا معينا من ناحية أخرى، فزينب لها عالم خاص بمقدار ما هو واقعي هو خيالي. وكثيرا ما تتمرد الشخصية، مهما كنت قادرا على ضبطها ووضعها في حيز معين فهي تكسر القوالب و بالتالي يصبح الهم هو في مرضاتها و التفاهم معها. فشمران العتيبي - في مدن الملح - كان رجلا من الناس العاديين لكنه عندما سجن ابنه ظلما خرج من جلده و عادى السلطة و أراد محاربتها وحيدا.)

هل يستمتع منيف في كتابة الرواية ؟

( طبيعي لولا المتعة الموجودة فيها لكان جميع الروائيين هجروها. إنها ليست سهلة. لكنها مثل الحُب، الحب تعاني فيه أحيانا، غير أنه يولد شعورا بالغبطة الداخلية فيه الكثير من التعويض، كما أن في استجابة القارئ تعويض.)

كيف تتحدد أهمية "الشخصية" في الرواية ؟

(إن أهمية الشخصية في الرواية لا تقاس و لا تحدد بالمساحة التي تحتلها، و إنما بالدور الذي تقوم به. وما يرمز إليه هذا الدور. و أيضا مدى الأثر الذي تتركه في ضمير القارئ، مما يدفعه للتساؤل و المقارنة، تمهيدا لتصويب موقفه، في الواقع، و بالفعل، تجاه هذا الموضوع الأساسي.أما اعتبار الكم، سواء من حيث المساحة أو العدد، الأساس في استنتاج الموقف، ثم الحكم عليه، فكثيرا ما يؤدي إلى فهم خاطئ، وبالتالي إلى نتائج خاطئة. لأن الشخصية الواحدة، وبعض الأحيان اللحظة الواحدة في تصرف الشخصية، يمكن أن تغني عن العدد الكبير و المساحة الشاسعة، ليس ذلك فقط، إن صمت الشخصية في اللحظة المناسبة، وبعض الأحيان غيابها، أكثر اهمية ودلالة من الكثافة المجانية.)

كيف يرى منيف بطل الرواية ؟

( لقد تراجع، إذا لم أقل انه انتهى، بالنسبة لي، البطل الفرد، البطل الذي يحتل كامل المسرح، وإذا وجد آخر فمن أجل خدمة دوره أو إظهار عبقريته. أصبح للبطولة، بالنسبة لي، مفهوم آخر و دور مختلف، يمكن أن ألخصه بما يلي:البطل هو الشخص الضروري، في الوقت المناسب، والذي لا يُغني عنه أي شخص آخر، أيا كانت المساحة التي يشغلها، أو الوقت الذي يستغرقه وجوده.البطل هو الشخص الذي يتصرف بطريقة لا يستطيعها غيره، أن يعبر عن موقف، يعطي مثلا، يقول كلاما هاما ... كل ذلك في اللحظة الضرورية الحاسمة. وليس البطل ذلك "المخلوق المصنوع" الذي يبدوا حكيما و قويا و قادرا في كل وقت، ولا مانع من أن يتصف بخفة دم و اللباقة عند الحاجة!إن بطلا من هذا النوع أحد بقايا العصور الوسطى، أو صناعة أمريكية للتصدير إلى البلدان المتخلفة في المرحلة الحالية. وهذا البطل، إضافة إلى أنه غير موجود، يولّد أوهاما و تشويشا، كما أنه يشغل وقتا فسيحا، لكنه لا يعني شيئا في النهاية، ومن الجدير بالرواية أن تتفاداه إذا أرادت أن تعبر عن الحقيقة و عن الحياة الفعلية الموّارة بالبطولات الصادقة التي تستحق الاهتمام و الالتفات، بدل العيش في الوهم)

هل لنا بأمثلة على ما تقول من رواياتك يا منيف ؟

( "مرزوق" في رواية "الاشجار و اغتيال مرزوق"، أحد المحاور الهامة التي تنهض عليه الرواية، علما أن هذا "البطل" لا يحتل في الرواية كلها أكثر من بضعة سطور.
أما في رواية "الشرق المتوسط" فإن البطل الحقيقي امرأة، هي الأم، رغم المساحة المتواضعة التي تشغلها، ورغم الضجة التي يحدثها الرجل.
وفي "سباق المسافات الطويلة" تحتل إمرأة، وليس المرأة، مساحة كبيرة، لكن تبدو في النهاية كدمية، ولا تتعدى أن تكون ممثلة لدور كلفها به الرجال.
أما في "مدن الملح"، الجزء الأول، وهذا يلخص الكثير مما أريد أن أؤكده، فإن بعض شخصيات الرواية، رغم المساحة المحدودة التي تشغلها، تحدد موقفا و تلخص فكرة، فمتعب الهذال يغيب في الربع الأول من الرواية، لكن وجوده، وكثافة هذا الوجود، يظلان طاغيين، حتى ارتأى الكثيرون ضرورة حضوره و استمراره، وكذلك الحال بالنسبة لزوجته، وضحة، فحين دخلت في الصمت الكبير، كانت أكثر بلاغة في التعبير، وأكثر جرأة في الفعل، إذ حلت مكان متعب، وشغلت القسم الاكبر من دوره، كل ذلك جرى في ظل الصمت الذي فُرض عليها أو أرادته.)

***
نشكرك يا منيف على هذا الوقت، ونسأل الله أن يرحمك في مثواك الأخير.
الكثير مما يمكننا مدحك به قليل، فلن توفي الكلمات حقك لتعبر عما قدمت للرواية العربية.



هناك تعليق واحد:

  1. فن الحوار مع العظماء الراحلين أو فن " إستحضار الأرواح " هو لون من الألوان الأدبية الجميلة و التي إنبثقت من المدرسة العربية الإسلامية ثم إنتشرت في جميع أنحاء العالم.

    راقني ما قرأت ، و ننتظر أرواحاً أخرى للإستحضار و حبذا لو كانت عمانية.

    ردحذف