الجزء الأول من القراءة هنا: http://saidreviews.blogspot.com/2009/11/1-1.html
مدخل: قراءة في الجدل مع التاريخ
يتطرق المستشار في هذا المدخل إلى "الميلاد المزدوج" للنص (الحديث أو السنة النبوية) وأثر ذلك على النصوص السياسية التي أصبحت "مجالا مستباحا للعبث، بالتوليد و التأويل على السواء". والمقصود هنا بمصطلح الميلاد المزدوج للنص هو وجود لحظتين وُلد فيهما النص، لحظة التلقي الأولى، ثم لحظة التدوين النهائي المنظم والتي جاءت بعد اللحظة الأولى بقرن وانتهت بعد ذلك بقرن.
أهمية هذه الملاحظة ستتجلى واضحة لاحقا، فهي العامل الأساس في تكوين نظرية السلطة في العقل الفقهي السلفي. وهي عامل مهم في فهم سر توافق النظرية باستمرار "مع الأنظمة الحاكمة المتعاقبة جميعا، على اختلاف توجهاتها ونظمها وطرائق وصولها إلى السلطة".
فما هو إذن قانون حركة النص مع التاريخ؟ ما هي عوامل تغير النص مع تغير المعطيات التاريخية لحظة تشكل التاريخ؟ هذا ما سيجاوب عليه المستشار في الفصل الأول للكتاب، وهو ما سأطرحه بعد هذه المشاركة وأكتفي به في هذه القراءة السريعة.
أما الفصل الثاني و الثالث فهو تطبيق عملي مباشر لقانون النص - النص المتعلق بالسلطة - فنقرأ النص القرآني على ضوء التاريخ في الفصل الثاني ثم نقرأ السنة النبوية على ضوء التاريخ عملا بالمنهج ذاته في الفصل الثالث. ولكنني أعتذر عن الخوض في هذين الفصلين كون أن قراءة مثل هذه تتطلب كثيرا من الوقت الذي قد لا أملكه في الفترة المقبلة.
الفصل الأول: قانون النص
"وإنما تكمن المشكلة في تحميل هذا الفقه بمرجعية إلزامية ممتدة في الزمان، تمارس على واقع زمني لاحق صلاحية النص ومكانته. لأن الفقه حينئذ يكون قد تحول إلى نص".
الإشكالية التي يطرحها الكاتب هو مزاحمة أقوال السلف للنص الإسلامي وجعله ملزما على من أتى بعدهم وكأن النص لا يفي بأغراض التشريع المتجددة مع حركة التاريخ. وفي المقابل وكأن "الحكم الفقهي" قد حل إشكالية حركة الزمن، وهي في الحقيقة لم تفعل ذلك بقدر ما خلقت "فجوة بين العقل الإسلامي الراهن وبين العصر". ومن هذا المنطلق فإن المستشار يصل إلى النتيجة التالية: (النص وحده يصلح للعصر – المنظومة السلفية المدونة ليست نصية – العقل المسلم الراهن مبني على هذه المنظومة الأخيرة – الفجوة إذن حتمية بين هذا العقل المسلم وبين العصر)!
الأقسام اللاحقة من هذا الفصل تناقش القضايا الثلاث المطروحة مناقشة تفصيلية: فيبدأ بكيفية "عمل النص الثابت مع الزمن المتغير". ثم يناقش كيف أن المنظومة الفقهفكرية لم تؤسس بشكل كامل على النص الخالص، بل "اعتمدت في عملية التأسيس أصولا إضافية غير نصية كالقياس والاجماع و أقوال الصحابة ... الخ. ثم أخيرا يتطرق إلى العلاقة العضوية بين العقل الراهن و العقل السلفي الأول.
فكيف إذن يعمل النص "الثابت" مع الزمان المتغير؟
قبل إجابة السؤال وطرح ما يسمى بقانون النص، فإن الكاتب يلفت أنظارنا إلى حقيقة أن العقل الفقهي السلفي قد حصر نفسه بالنظرة اللغوية للنص. فقد كان البيان هو مفتاح علم الأصول عند هذا العقل (بخلاف إبن حزم الذي كان يرى أن المفتاح إلى الأصول هو المنطق وأن الحاجة إلى اللغة هي بقدر ما تفهم هذه النصوص). والإشكالية المطروحة هنا أن الآلة اللغوية بمفردها لا يمكن لها أن تحيط بالنص، لأنها أولا محدودة: أي أنها قابلة للحصر والانتهاء كما فعل الفراهيدي عندما حصر كلام العرب. وثانيا لأنها إقليمية: أي أنها وثقت في المعاجم اعتمادا على الاستخدام البدوي لمفرداتها، ومهما بلغت بهم البراعة في البيان فإن لغتهم كانت محصورة ببيئتهم. وبالتالي فإن الآلة التعاملية البديلة يجب أن تكون في مستوى النص اي كوني مطلق، وهي – في نظر الكاتب – "مبادئ العقل وحركة نشاطه الداخلي".
كيف يعمل النص في التاريخ؟ ما هو قانون النص الذي يريده الكاتب؟
القانون يقوم على قاعدتين أساسيتين أوردهما مع شرح بسيط حول كنههما كما وصفها الكاتب:
1- دائرة المباح: كل ما لم يأت به نص فهو يقع في هذه الدائرة، ولا معنى لاستجلاب نص فقهي من خلال الإجماع أو القياس بحيث يكون ملزما على امتداد الزمان. "بذلك أن قانون النص يعمل من خلال دائرة المباح، داخل الواقع البشري في زمن بعينه ومكان بعينه، معترفا له بدوره الطبيعي في حركة التشكيل".
2- خاصية الاكتناز: وذلك "أن بالنص منطقة مخبوءة متحركة، أو طاقة مكنوزة مجهزة للتمدد والإنتشار". أي أن النص يعمل في الواقع المعاش، "ومن ثم فلا سبيل إلى فهم النص على حقيقته في زمن معين، إلا بفهم الواقع المباطن لهذا الزمن واستيعابه". وأما محاولة إلزام النص بواقع زمني سابق فإن هذا يفقد النص "طاقته التشغيلية الكاملة". وأدل مظهر على خطورة عدم فهم خاصية الاكتناز هو عملية تنصيص التاريخ: أي "إبراز نصوص تفصيلية متطابقة مع الأحداث اللاحقة تطابقا تفصيليا تاما"، مما حدا بالعقل الفقهي السلفي أن يتناول النص من خلال ماضيه ويحجب بالتالي الواقع الزمني المتغير ويحجم عن دوره في استخراج مكنوزات النص وبالتالي تعطيل النص عن العمل بكامل قدرته التشغيلية.
بعد بيان "قانون النص" يأخذنا الكاتب في رحلة شبه تاريخية لمعرفة موقف العقل السلفي المسلم اتجاه القواعد التي تحكم حركة النص وموقفها من المرجعية المفارقة للنص أي مرجعية التاريخ. ويبين بكل وضوح بأن الهدف من هذا هو "فهم الكيفية التي كتبت بها النظرية السلفية في السلطة على وجه التحديد". فيبدأ بالعقل السلفي الطاغي، أو ما عرف باسم السنة و الجماعة، ثم الخوارج ثم الشيعة وبعدها المعتزلة وأخيرا مدرسة ابن حزم. وسأختصر قوله في المدارس الثلاثة الأولى.
أما عن المنظومة السلفية فقد اعتمدت القياس و الاجماع وجعلته مصدرا يوازي النص، وألزمت نتاج جيل على الأجيال التي تليه. والمشكلة ليست في الإجماع و القياس وحدهمها – فهما أدوات الاجتهاد، ولكن المشكلة في إلزام ما صدر عنه من جيل على الأجيال التي تليه مغلقا بذلك باب الاجتهاد. ونرى كيف استعانت هذه المنظومة بنصوص - أو بالأحرى اختلقتها - لتضفي شرعية على السلطات الحاكمة المتعاقبة عليها في مقابل نصوص المعارضة، الشيعة تحديدا. "الأمر الذي يؤكد من جديد، بأن النظرية السلفية في الإمامة، أو نظرية الخلافة عند "أهل السنة والجماعة" ليست نتاجا مباشرا لنص إلزامي خالص، وإنما هي صناعة التاريخ أو هي بعبارة مكافئة، من صناعة السلطة".
وأما عن الشيعة فمع أنها تمارس الاجتهاد بعقلانية أكبر وتحرر أكبر من السلفية كون أنها لم تعتمد "السلف" كمشرع، غير أن موقفها من قانون النص "ينطوي على إشكالية نصية وأصولية خطيرة". ذلك أنها تعتبر قول الأئمة نصا بحد ذاته، ولذلك دخلت "في دوامة الاستنصاص و التنصيص" أي طلب النص بعد الحاجة إليه و تصنيع النص بطريقة تريكيبية موافقة للأحداث. كان هذا يعني بأنه لم يكن هناك داع للاعتماد على "السلف" لأن النص – من خلال إمام العصر – كان دوما حاضرا عند الحاجة إليه.
***
انتهى
ملاحظة: الموضوع كتبته قبل عامين تقريبا في الحارة العمانية
http://alharah2.net/alharah/t13470.html