تعود قصة هذا الطائر إلى بضعة أيام مضت. كان حينها يتابع رتابة يومه المعتاد، يقتات كنز الأرض دون كلل، فهذا ما خلق لأجله. لم يكن يعرف الطائر غير هذه الأرض، ينقب فيها بمنقاره غير آبه بجمال اللا شيء من حوله. كانت السماء لا تعنيه في شيء، وما كان الشروق أو الغروب يستوقفه للتأمل. بل حتى الأفق لا يذكر أنه استشعر عذوبة منظره يوما. كل هذا حتى بضعة أيام مضت.
كان الطائر يقوم بعمله المعتاد عندما أطلت عليه عصفورة لا يدري من أين. أطلت على ضفافه بخجل، تقدم قدما وتأخر أخرى، غير أن زغردتها - المتسائلة - كانت تصل مسامعه. لم يلتفت إليها، فقد كان منهمكا في عمله الدؤوب، ولكنه أشار إليها بجناحيه يرشدها الطريق الذي يعرف، فذهبت حيث أشار وأكمل هو عمله.
جاء المساء وانتهى الطائر من عمله. اتجه بخطى أنهكها التعب إلى حيث ينام دوما فلم يكن هناك شيء آخر يفعله. فجأة أفاق من نومه، تذكر تلك العصفورة التي مرت عليه في صباحه. أصابه الفضول وقرر أنه في اليوم التالي سيتبع خطاها، فقط للتأكد بأنها إلى الوجهة الصحيحة ذهبت. أغمض عينه وتذكر كم كان صوتها جميلا. ارتسمت على وجهه شبح ابتسامة قبل أن يخلد في نوم عميق.
لما عاد مساء ذلك اليوم رأته. بقي صامتا وبدأت هي في الغناء. كانت هذه المرة تغني من أجله، من أجله هو فقط. أصابه نوع من السكر لعذوبة صوتها وحلو كلامها فلم يبرح مكانه حتى جاء الصباح، وقت العمل، فاستفاق الطائر من سكره وذهب لينقب الأرض مرة أخرى وصوت العصفورة لما يغادر مخيلته.
وهكذا تغيرت تلك الرتابة المملة التي لم يكن يعرف سواها. فصار يقضي الصباح في عمله ويهرول في المساء ليسمع مزامير عصفورة لا يعلم عنها شيئا. وبقي الأمر هكذا يومين، طائرنا لا يعرف طعم النوم، يقضي نهاره في العمل ومساءه في الغزل، حتى جاء اليوم الثالث بمفاجأة.
كان يقترب من عصفورته، ولكن ليس بسرعة كافية. فقد كانت أسرع وأقوى وأخف. استمر في المحاولة، فقد اعتادها ولم يقوى على فكرة الفراق، ولكن المسافة أخذت في الاتساع. كان قد أنهكه تعب السهر ونصب العمل، كما أن مخاوفه لم تسعفه: ماذا إذا لم يستطع اللحاق بعنفوانها؟ ماذا إذا خذلته قواه قبل أن يصل؟ نفض هذه الأفكار كما كان ينفض جناحيه وقرر الاستمرار في المحاولة.