آخر تدوينة كتبتها كانت في يونيو 2010 بعنوان "خالد سعيد وظلم الأنظمة". كان وضعي النفسي آنذاك سيء بسبب الإحباطات المتوالية التي كانت تزمجر في وجوهنا من خلال الشاشات. لم نكن نرى سوى الظلم والقهر ومواقف سياسية ضعيفة لا تشرف أحدا، بل وتزيد مهانة يوما بعد آخر، لم يبق شيء لنا كشعوب إلا البكاء المر الحارق وجلد أنفسنا بسياط القهر. كان الغضب مشتعلا لدرجة أننا لم نجد وسيلة نداري بها مشاعرنا سوى الدعاء. قلت في ختام تدوينتي الأخيرة بقهر: "هذه الأنظمة ما باتت تخشى من شيء، فسياطها ألجمت الناس، وإعلامها يجمل قبحها، وأموالها شرت به أقلام المثقفين والساسة والشعراء، وشح من يقف في وجهها مطالبا بحقوق الناس ودية شهدائهم. ولكن أبشركم بأن عمر الظالم قصير، وسيأتي اليوم الذي سنحصد فيه ثمار دماء خالد سعيد وإخوانه الأحرار. وأخيرا أقول:أيها الظالم كفاك حمقا فليس بين دعاءنا وبين الله حجاب"
لم تمض بضع شهور إلا وانقلب الحال إلى النقيض مع الثورات العربية المتلاحقة، بدأ بتونس، ثم مصر، ثم الحراك في عمان والبحرين، ثم ليبيا وسوريا واليمن. كانت المفاجأة أكبر من أن نصدقها. صحيح أن البعض تنبأ بتغيير، لكن لم يتصور أحد بأن يحصل كل هذا بهذه السرعة. بغض النظر عن كل الصعوبات التي ستواجه الشعوب العربية في إيصال ثورتها إلى بر الأمان، غير أن هذا الانتصار كان مدويا لثلاثة أسباب: سرعة حدوثه، وامتداده الجغرافي، والعناصر الإنسانية التي كانت وراءه. وكلها لم تكن متوقعة ولا منطقية، ولكنها الآن من المسلمات تاريخية، أي أنها واقع ما حصل!
كم حاولت أن أكتب شيئا في هذه الثورات، ولكنني كنت أقف مبهورا أمامها لست مصدقا عيناي. وكان قلمي وعقلي لا يستجيبان لرغباتي الجامحة في تسجيل شيء. أحجمت عن الكتابة لهذا السبب ولأسباب أخرى شخصية، ولكم ألحت علي عزيزة علي أن أكتب، أي شيء، ولكنني لم أستطع استجابة دعائها. قالت لي قبل خمسة أشهر: ابعث الحياة في مدونتك!، فأجبتها: وهل هناك من يتابعها أو يقرؤها؟ قالت: نعم، أنا!. وكان ذلك سبب كفيل وكاف بأن أعود للكتابة بكل حماس ولكنني لم أقعل. ولا أدري حقيقة لماذا على الرغم من أنها بالنسبة لي "إلهام" كتابي لم أجد مثله قط. اعتذرت إليها في حينه، وما زلت أعتذر إليها الآن، ولكنه حكم لم أستطع مغالبته بقرار.
عندما كنت أكتب في السابق، كنت أضع القارئ ضمن أولياتي المطلقة، لم أكن أكتب لنفسي قط. كان السؤال الذي يلح علي: هل سيستفيد القارئ مما أكتب؟ فإذا وجدت أن ما بنفسي لن ينفع القاريء أحجم عن مواصلة الموضوع، وإذا وجدت أن ما أكتبه لا يضيف شيئا جديدا أحجم عن الكتابة. وقد يكون هذا سر الشح الذي تعاني منه مدونتي. نكران الذات والانتقاص مما أحمله في جعبتي بالإضافة إلى الكسل هي الأسباب التي تجعلني أحجم عن الكتابة. وربما فاتني الكثير بسبب هذا، فلو أنني كتبت لنفسي (وهي وسيلة رائعة في تنظيم وترتيب الأفكار في العقل) لكسبت الكثير الآن، ولكان سببا في تطوير أدواتي الكتابية، وهو بالضبط ما يفعله المدونون الرائعون الذين لا نملك أمام مدوناتهم سوى الانبهار والتصفيق.
ما أحاول الوصول إليه من خلال هذه التدوينة هو فهم العلاقة التي تربط بين التدوينة والمدونة وأنا، (وربما هي بما أنها جزء لا يتجزأ من محاولاتي الكتابية السابقة)، وربما وسيلة الحديث مع الذات هي أنجع السبل لهذا. أكتب اليوم لأنني فهمت رسالة – وصلتني قبل يومين – تقول بأن سبب الجفاء هو الوعد الذي قطعته قبل شهرين بكتابة شيء وهو وعد لم ألتزم به كما لم ألتزم بأشياء كثيرة من قبل. تعلمت ألا أكثر من الأعذار فالأعذار ليست سوى واجهة نتوارى أمام فشلنا وراءها، تعلمت أن أفضل شيء يفعله الإنسان أمام هذه المواقف هو مواجهة الخطأ بالاعتذار والعزم بكل إخلاص على إصلاحه. وهذا بالضبط ما أفعله في هذه التدوينة، أن أواجه الخطأ بالإعتذار والعزم على مواصلة الكتابة مهما كانت الظروف. هناك الكثير من المواضيع التي تستحق الكتابة عنها، هناك الكثير من القضايا التي تنتظر من يكشف عنها، بل هناك الكثير من المعلومات التي تكون حاضرة في العقل غير أن فائدتها الحقيقية لا يتحقق إلا بمشاركتها القراء.
يقول المفكر الإنجليزي الشهير برنارد شو أن الإنسان المنطقي هو من يتأقلم مع العالم، والإنسان الغير المنطقي هو من يأقلم العالم عليه، ولهذا فكل التطوير في العالم يكون من الأشخاص الغير منطقيين. انتهى كلام شو، ومن هذه اللحظة سأعزم على أن ألا أكون من أولئك الذين يقبعون في أقبيتهم بانتظار الظروف أن تتغير لصالحهم.