لم يتوقع أحد بأن يتطور الفساد الأخلاقي والمنهجي والمالي للسلطة الفلسطينية الحالية بقيادة أبو مازن إلى درجة من انعدام الضمير بحيث تستبيح وطنا بأكمله. إثنان وستون عاما منذ بداية النضال والفداء والتضحية للقضية الفلسطينية ولم تكن هناك فرصة أقرب من هذه لإدانة العدو الصهيوني في المحافل الدولية، ثم يأتي أبو مازن ويقرر سحب تقرير جولدستون من طاولة مجلس حقوق الإنسان بجرة قلم وفاكس مرسل إلى مندوبه في الأمم المتحدة، متنكرا بذلك لأرواح الآلاف من الشهداء الذين لم ينصفهم التاريخ ولم تنصفهم المحافل الدولية إلا في هذه المرة اليتيمة. هذه الفرصة أُجهضت حماية لقيادات العدو الصهيوني بيد مَن مِن المفترض أنه أمين على القضية الفلسطينية.
ليس الهدف من هذه المقالة الاستطراد في ذكر الخسارة التي مني بها الشعب الفلسطيني بسحب التقرير وكم من الضرر ألحق هذا بقضيته سواء على المستوى الشعبي أو على المستوى الرسمي، ولكنه لإحالة النظر إلى ما يمكن للفساد أن يفعله عندما تتقاطع المصالح الشخصية والعامة. فالسيد محمود عباس كان بين خيارين، أن يسلم التقرير ويتحمل تبعات نشر فضيحة تواطئه مع الإسرائيليين في حرب غزة، أو أن يسحبه ويضيع على آلآف الشهداء من النساء والأطفال استرداد حقوقهم بمحاسبة المجرمين ووضعهم تحت المساءلة القانونية الرسمية. والخيار لم يكن صعبا كما يبدو!
النهج العام لحكام الدول العربية ليس أقل سوءا من نهج السيد محمود عباس. فالبقاء على سدة الحكم أطول فترة ممكنة لم يبق حلما فقط، ولكنه واقعا معاشا يتمتع به الحكام يوما وراء الآخر وليست هناك تحديات حقيقية تواجههم. فأمريكا - حمامة الديموقراطية - قد عدلت عن هذا الخطاب بعدما رأت نتائجه في فلسطين وقبله في الانتخابات البرلمانية في مصر ، بل وطمأنت الحكام بعيد الحرب الإسرائيلية على لبنان بأنها - والكلام لكونداليزا رايس: تتفهم بطئ التحول الديموقراطي في مصر! ولم تبخل هيلاري كلينتون بتصريح شبيه للتأكيد على أن الإدارة الأمريكية ما باتت مهتمة بالتغيير الديموقراطي كما كانت في السابق. ومن جانب آخر فإن حركات التحرر العربية ماتت واقعيا وأيديلوجيا، فليست هناك قوى حقيقية تطالب بالتغيير والإصلاح. بل حتى التحركات التحررية أصبحت مستهجنة في الوعي العام، وما الاستنكار العربي العام لمطالبات جنوب اليمن بالانفصال - بسبب الفساد الذي لحقهم - إلا دليل قاطع على أن الجو العام هو جو الرضوخ التام والرضى بالأمر الواقع والخضوع بانكسار أمام الرأي الفقهي القائل بوجوب طاعة ولي الأمر ... وإن كان ظالما!
نعود إلى محمود عباس والشعور العام بالاحتقان والغضب العارم الذي أجج الشارع العربي عموما والفلسطيني خصوصا ضد السلطة الفلسطينية. فالحقيقة لم تكن أوضح مما هي عليه اليوم: الفساد ليس له آخر والسكوت عنه جرّأه على الوطن وحقوق أحيائه وأمواته، الخط الأحمر الذي لم يفشل يوما في تحريك الشعوب. الشرعية التي اختاراها السيد محمود عباس لا تختلف كثيرا على الشرعية التي يستند عليها معظم حكام الدول العربية: القوى الخارجية والزمرة المحيطة المستفيدة من وضع الفساد. ولذلك فهي في جوهرها لا تختلف كثيرا عن السيد محمود عباس الذي انكشف على الملأ، وإلا فما الفرق بينه وبين من رهن أمر موارده و ثرواته لرغبات الإدارات الأمريكية أو البريطانية المتعاقبة؟ وما الفرق بينه وبين من باع للصهاينة ماء النيل سرا؟ أو ذاك الذي أباح أبنائه لصواريخ وقاذفات الترسانة العسكرية الأمريكية؟!
الفساد لا يعني الاختلاس فقط، ولكنه استعباد العباد والاستبداد في الرأي ويكون حاصله هدر حقوق المواطن وضياع الوطن خطوة بعد أخرى ويوما بعد آخر. ليست هذه أولى أخطاء السيد محمود عباس ولا ينبغي لنا أن نتوهم بأنها ستكون آخرها، فما هذه إلا نتيجة طبيعية للمسار الذي اتخذته سلطته الدايتونية والتي ستتبعها خطوات أخطر على القضية الفلسطينية.، هذا ما لم يقف أبناء فلسطين الأحرار في وجهه كما فعل أبناء غزة الذين لم يرضوا الضيم والظلم فثاروا على تلك السلطة فحصدوا استتباب الأمن والاستقلال بالقرار في غزة، والمفارقة الغريبة العجيبة هي أنه في حين سحبت السلطة التقرير بكل ذل كانت حماس تستقبل ٢٠ أسيرة مقابل تسجيل قصير لجلعاد شاليط، فشتان بين الإثنين.
الأمر مع الشعوب العربية لا يختلف كثيرا وخياراتها محصورة، فهي إن صمتت اليوم فستتجرع غدا ما تتجرعه فلسطين وأهلها من ظلم ومشاعر الحنق والمرارة والغضب. وإن هي ثارت فلربما تجني ما جنته الشعوب الأخرى في ثوراتها المختلفة من تحرير للإنسان وارتقاء بالوطن. فهل تفيق هذه الشعوب على حلم الثورة؟ وهل ستكون فلسطين ومثالي غزة والضفة نواة للثورة العربية المرتقبة؟ ...ربما!
في محاولة الكتابة
قبل 9 أعوام