27 نوفمبر 2009

قصة طائر لم يحلق بعيدا



تعود قصة هذا الطائر إلى بضعة أيام مضت. كان حينها يتابع رتابة يومه المعتاد، يقتات كنز الأرض دون كلل، فهذا ما خلق لأجله. لم يكن يعرف الطائر غير هذه الأرض، ينقب فيها بمنقاره غير آبه بجمال اللا شيء من حوله. كانت السماء لا تعنيه في شيء، وما كان الشروق أو الغروب يستوقفه للتأمل. بل حتى الأفق لا يذكر أنه استشعر عذوبة منظره يوما. كل هذا حتى بضعة أيام مضت.

كان الطائر يقوم بعمله المعتاد عندما أطلت عليه عصفورة لا يدري من أين. أطلت على ضفافه بخجل، تقدم قدما وتأخر أخرى، غير أن زغردتها - المتسائلة - كانت تصل مسامعه. لم يلتفت إليها، فقد كان منهمكا في عمله الدؤوب، ولكنه أشار إليها بجناحيه يرشدها الطريق الذي يعرف، فذهبت حيث أشار وأكمل هو عمله.

جاء المساء وانتهى الطائر من عمله. اتجه بخطى أنهكها التعب إلى حيث ينام دوما فلم يكن هناك شيء آخر يفعله. فجأة أفاق من نومه، تذكر تلك العصفورة التي مرت عليه في صباحه. أصابه الفضول وقرر أنه في اليوم التالي سيتبع خطاها، فقط للتأكد بأنها إلى الوجهة الصحيحة ذهبت. أغمض عينه وتذكر كم كان صوتها جميلا. ارتسمت على وجهه شبح ابتسامة قبل أن يخلد في نوم عميق.

استيقظ باكرا واتجه حيث أشار للعصفورة أن تتجه - فقط ليتأكد - ثم يعود لما خلق من أجله. وصل دون أن تنتبه فقد كانت تغرد ترنيمتها الصباحية. كلماتها هزت كيانه. فبقي حيث هو ينصت إليها غير مصدق حتى انتصف اليوم. قرر أن يعود للعمل ويرجع إليها في المساء.

لما عاد مساء ذلك اليوم رأته. بقي صامتا وبدأت هي في الغناء. كانت هذه المرة تغني من أجله، من أجله هو فقط. أصابه نوع من السكر لعذوبة صوتها وحلو كلامها فلم يبرح مكانه حتى جاء الصباح، وقت العمل، فاستفاق الطائر من سكره وذهب لينقب الأرض مرة أخرى وصوت العصفورة لما يغادر مخيلته.

وهكذا تغيرت تلك الرتابة المملة التي لم يكن يعرف سواها. فصار يقضي الصباح في عمله ويهرول في المساء ليسمع مزامير عصفورة لا يعلم عنها شيئا. وبقي الأمر هكذا يومين، طائرنا لا يعرف طعم النوم، يقضي نهاره في العمل ومساءه في الغزل، حتى جاء اليوم الثالث بمفاجأة.

قررت العصفورة أن تتطير، أن تحلق بعيدا لتختبره. ارتبك الطائر، فهو لم يستخدم جناحيه منذ أمد ولا يذكر كيف يضرب بهما الهواء ليطير. قرر المحاولة، فقد كان صوتها أعذب من أن يدعها تذهب دون أن يحاول. فرد جناحاه وقبضهما إليه وارتفع عن الأرض. لم يصدق عيناه، كان الأمر غريبا، فهو لم يعتد أن ينظر إلى الأرض من علي. ازداد حماسه واستمر يضرب الهواء بجناحيه ليرتفع أكثر.

كان يقترب من عصفورته، ولكن ليس بسرعة كافية. فقد كانت أسرع وأقوى وأخف. استمر في المحاولة، فقد اعتادها ولم يقوى على فكرة الفراق، ولكن المسافة أخذت في الاتساع. كان قد أنهكه تعب السهر ونصب العمل، كما أن مخاوفه لم تسعفه: ماذا إذا لم يستطع اللحاق بعنفوانها؟ ماذا إذا خذلته قواه قبل أن يصل؟ نفض هذه الأفكار كما كان ينفض جناحيه وقرر الاستمرار في المحاولة.

فجأة، توقف الجناحين ولم يطاوعاه. نظر إليهما بحسرة، فقد كانت مخاوفه تتحقق. نسي للحظة بأنه لا يعرف الطيران. ونسي أن العصفورة كانت تبحث عمن هو أفضل منه، عمن هو أقوى وأكثر شبابا، عمن كان يستطيع مجاراتها في الطيران. هوى طائرنا كصخرة حتى ارتطم بالأرض. وحينها اكتشف كم كان مغفلا.
**
ملاحظة: الصورة التقطت ذات صباح ... في مكتبي.

25 نوفمبر 2009

ذوبان !






منذ متى يمكن لكلمات أن تؤثر في الانسان فتمسخه مخلوقا آخر في طرفة عين؟!


ثلاثة أيام وأنا لست أنا الذي أعرفه ... ولا أصدق بأنني أقول هذا الكلام!


لا بد أن هناك مس من السحر أو الجنون أصابني!



عذرا أيها القراء، ولكنني حقا أريد البوح بما عندي بعيدا عن جمود الفكر ومعادلات السياسة ومجادلات الثقافة، أريد سكب ما يعتريني دون أن أمعن التفكير في قواعد الكتابة أو في منطقية الحديث. فما أشعر به لا يمت للمنطق بصلة. كل ما آمله أن لا يفسر كلامي بغير ما يحتمل. ولإن كثرت التكهنات حول ما سأقول فلن أملك سوى جواب واحد: قلمها أحاطني بسحره!



قشعريرة ارتباك تصيبني عندما أقبل على صفحاتها، ولا تذهب إلا بشرب ذلك الزلال من كلامها. فإذا ما وقعت عيناي على ما سطرت أناملها أصاب برعشة تتناغم مع ما في قلبي من خفقان ... أصير وكأنني عاشق مراهق يسمع كلمات غزل تفقده صوابه. غير أنه لا غزل هنا ولا تغزل، فقط كلمات تدهشني وتاملات تسلب عقلي!


أصرف بصري - الذي لا أستطياع غضه عن حلو كلامها - لأتمم مشاغل الحياة الضرورية، فلا أجدني إلا والشوق يملأ جوانحي إلى جديد يراعها الأخّاذ، فأعود مهرولا كطفل فقد أمه فيقفل راكضا إليها مشتاقا لدفئها وحنانها وحضنها.



غريب هو هذا الشعور حقا!



فهي لا تكتب رواية، ولا تحكي قصة، ولا تنظم شعرا - لا شيء من هذا القبيل - ولكنني لا أذكر أنني أحببت كلمات كما أحببت كلماتها. لأول مرة أستلذ الكلام لذاته، وأجد متعة في تفكيكه وتركيبه وإسقاطه على الواقع من حولي. غريب هذا بالنسبة لي، فأنا لا أهتم عادة باللغة قدر ما أهتم بالحدث والمعلومة التي أجنيها من السياق، فما الذي قلبني ؟!


**


سيدتي ... يا صاحبة القلم الجميل،


أعيريني شيئا من سمعك الآن فقد انتهيت من المقدمات وسأشرع في المديح ...


لا تحبين المديح؟!


حسنا سأعرض عنه، فكلماتك في كل الأحوال أكبر من عبارات المديح التي أحفظها، بل هي أجل من مفردات الثناء التي سطرها الخليل في عينه.
أعرضي عن مدونتي إن كنت عليها الآن، فهناك ما عليك تسطيره ... سطريه لك ولمن تشائين، لا يهم، يكفي أنه كلامك، ويكفيني أنني أرتوي منه وأقتات به بكرة وعشيا!


**


(ملاحظة،


سيقول قائل: أنت عاشق!


- نعم، عشقت كلامها،والإنسان يعشق المطر.


- وهي؟


- هي سحابة غمرتني بالماء!)

19 نوفمبر 2009

السلطة في الإسلام (ج1) - 1


" ... لعبت السلطة – بشكل مباشر في بعض الأحيان – دورا جبروتيا طاغيا في تشكيل العقل، لا أقول العقل السياسي الإسلامي فحسب، بل العقل الجمعي الإسلامي العام. وفي هذا الإطار يمكن النظر إلى ما يقدمه هذا البحث من أطروحات حول إشكالية السلطة، هذه الإشكالية التي تكمن في رأينا خلف معظم المعضلات التي تثخن جسد الحضارة الإسلامية بالجراح، على مستوى العقيدة و الفكر و العلم، والسياسة و الاقتصاد و الاجتماع، بل وعلى مستوى السيكولوجيا واللغة و الفن و الجمال"

كتاب السلطة في الإسلام للمستشار عبدالجواد ياسين كتاب دسم في مادته غني في محتواه معقد في تراكيبه، لم يقصر الكاتب فيه الحديث عن السلطة فحسب ولكنه ولج إلى العقل الفقهي السلفي - العقل المكوِّن لفلسفة السلطة كما نعرفها و نراها اليوم، بل العقل المكوِّن للعقل الإسلامي الجمعي إذا صح التعبير - وقدم إليه بكل جرأة ناقدا ومحللا.

يقدم المستشار قراءة نقدية تدعوا إلى وقفات جدية ومراجعة شاملة للمنهج و التصور الذي عمل به المسلمون في علم الأصول، فيأخذنا إلى مكامن فكرية جديدة بهدف إعادة تشكيل و تصحيح بعض الإشكالات الأصولية - كما يرى - متخذا تصحيح بعض المصطلحات و المفاهيم مدخلا لذلك، فيعيد تعريف مصطلحات كـ "الإسلام" و "السلف" و "النَّص" و "الإلزام" و "السنة". ثم يقدم مراجعة شاملة لتصورات خاطئة استقر عليها عقل المسلم في القرون العشرة الأخيرة بسبب السلطة أو نتاج قهرها.

لا شك بأن قضية السلطة من القضايا المحورية عند البشر بشكل عام، ولكنها تأخذ طابعا وجدانيا عند المسلمين بسبب ارتباط بعض الآرآء العقدية بها ارتباطا عضويا تكامليا، ولأنها كانت محور الافتراق المذهبي وانقسام الأمة انقساما نزفت بسببه كثيرا من الدماء.

وإذ يحق لي اقتباس جملة و أدعي بأنها ملخص المنهج الذي يطرحه الكاتب، فستكون هذه الجملة: "لقد قرأنا بعض الأحاديث في كتب السنة الصرف فلم نفهمها، فلما قرأناها في كتب التاريخ فهمناها، كما قرأنا أحاديث في كتب السنة الصرف فقبلناها، ثم قرأناها في كتب التاريخ فلم نقبلها".

كان قرار الكتابة حول الكتاب ليس سهلا، لخشيتي بأن تكون قراءتي مخلة لمادة الكتاب ، ولكني عقدت العزم على أمل تسليط الضوء فقط على ما جاء فيه دون أن أعد القارئ بأنه سيجد في هذه القراءة السريعة محتوى الكتاب بأكمله، وإن كان هناك خلل في ترابط الأفكار أو وضوحها فذلك خطأ أرجعه إلى قلمي.

فما هي السلطة إذن؟ وما دخل التاريخ بها؟ وما دخل التاريخ بالنص؟ وما هو "قانون النص" الذي يزعم الكاتب بأنه القانون الذي غفل عنه علماء الأصول على مر التاريخ؟

دعونا نقرأ سويا ...

* * *

المقدمة

عندما يتكلم المستشار عبدالجواد ياسين عن السلطة، فهو يتكلم عن الجانب "الشكلي" منها لا الجانب الموضوعي، "إذ ليست القضية في الحقيقة، ولم تكن قط، هي أن يحكم الإسلام أو لا يحكم، فذلك تحصيل حاصل لحقائق الإسلام الثابتة في النص والتاريخ على السواء". ولأن الكلام عن السلطة منطلق من المنظار الإسلامي له، أي من خلال نصوص الإسلام التشريعية، فإن المستشار يقدم تصوره للمنهج الذي يجب اتباعه لاستخراج "حكم الإسلام" في شكل السلطة.

"هل في الإسلام أجكام ملزمة، تعين شكل الحكومة، أو تشير إلى هيكل النظام السياسي في الدولة؟" هذا هو السؤال الذي منه يلج المستشار إلى كتابه. ويبدأ بتوضيح ثلاثة مفاهيم أساسية لكي "ينضبط على نحو محدد": مفهوم الإسلام، ومفهوم الإلزام، ومفهوم الشكل.
  • مفهوم الإسلام: إسلام النص وليس إسلام التاريخ. أي الإسلام النابع من الكتاب و السنة الصحيحة الثابتة، لا ما شرعه التاريخ بسلطته (ستتضح هذه الفكرة لاحقا).
  • مفهوم الإلزام: إن كان الاسلام هو "النص" أي الكتاب و السنة الصحيحة الثابتة عن رسول الله، فإن الإلزام لا يكون إلا على ما أتى فيه نص. وأما ما لم يأت فيه نص فالسكوت عنه نصا كذلك. أي أن تعمد سكوت الشارع عن قضية معينة يعني أنها تقع في دائرة المباح وليس من الإنصاف وضعها تحت دلالات أو تصنيفات كالندب أو الكراهة أو ما سواهما، لأن "السلف" هو واضع هذه التصنيفات لا النص، والسلف ليس هو المشرع بل النص.
    وللتدليل على هذه الفكرة فإن المستشار يضع أمامنا مسألة عزل الإمام "للفسق أو للظلم أو للفساد"، وكيف أن تحريم الخروج عليهم أو عزلهم جاء من منطلق " أن السلف كانوا ينقادون لهم، ويقيمون الجمع و الأعياد بإذنهم ولا يرون الخروج عليهم"، ولا يوجد بطبيعة الحال "نص" يؤيد هذا الحكم ولكنه جاء نتيجة الإذعان لفعل التاريخ – أو السلف !
  • مفهوم الشكل: "الخلافة – كمحتوى موضوعي – وبغض النظر عن إلزامية الإسم، هي فريضة لازمة بنصوص الإسلام. أما الخلافة – كنسق شكلي – فلا وجود لها في نصوص الإسلام. ولا وجود لها كذلك في تاريخه. لأن الذي أفرزه التاريخ في الحقيقة لم يكن نسقا شكليا واحدا و مضطردا، بل أنساقا متعددة ومختلفة في الجملة و التفصيل".


ثم يختم المستشار هذه المقدمة بتوضيح "أن السلطة لم تتشكل من خلال النص، وإنما تشكلت من خلال التاريخ. ليس ذلك فحسب بل إن تاريخ السلطة – من خلال "التنصيص السياسي" – قد لعب دورا جزئيا في تشكيل النص"! ولكي يستطيع تجاوز هذه الإشكالية – إشكالية التنصيص السياسي – كان منهج الكاتب هو قراءة السلطة في النص على ضوء التاريخ، ثم قراءة السلطة في التاريخ على ضوء النص. وبهذا المنهج فإن ما لم يفهم من النص المقروء في كتب السنة الصرف يصبح مفهوما عندما يقرأ في سياق كتب التاريخ.

يتبع...