04 مايو 2006

* * * * ذكريات عربي أفغاني * * * *




هناك كتب لا تعرف كيف تعبر عن مدى استمتاعك بها، بل تحس بأنك قد تظلم الكتاب بتعليق لا يرقى إلى المستوى الذي يجعل القارئ يحس بالحميمية التي جمعت بين قارئ الكتاب - أي أنا - و الكتاب نفسه.كنت لا أذهب إلى مكان إلا و الكتاب معي ، أقرأه قبل النوم و بعده ، بل لا أرعوي عن استغلال بضع دقائق قبل الريوق لأقرأ صفحتين أو ثلاثة.ولكني أتوكل على الله و أسرد لكم ما دار في خلدي وأنا بين جبال و أنهار أفغانستان،بل و أنا بين إخواني في الله أهل أفغانستان في عاداتهم و تقاليدهم و تاريخهم وجهادهم و جلدهم و صبرهم و مآسيهم التي سطرها صاحب الذكريات.إن صاحب الذكريات أبو جعفر المصري القندهاري - وهو الدكتور أيمن صبري فرج - لم يتردد في تقديم لقبه الأفغاني في صدارة الكتاب لحبه الشديد لأهل أفغانستان و لإعتزازه بالعامين الذين قضاهما بين جبال أفغانستان يقاتل مع الأفغان جنبا إلى جنب لتحرير الأرض من قبضة الشيوعيين. وأنا حين قرأت الكتاب أحسست أنني معه أقاتل و أحببت الأفغان ربما أكثر مما أحبهم هو لأني تمنيت لو كنت معهم في سن الأسنة و شد الأوتار و تجهيز المدافع لقتال أوغاد الشيوعية أو من شايعهم في قتال المسلمين واحتلال أوطانهم
*****
يفتتح لنا أبو جعفر ذكرياته بذكر شأنه في مصر، كيف أن خطاب الجهاد و الدعوة إليه كانت تثيران لديه الحماس و العزم و الإرادة و لكن مع هذا لم يعقد العزم وظل مترددا عدة سنوات إلى أن أكمل دراسته الجامعية. غير أنه لم يطق صبرا بعد هذا وعزم على الرحيل فشد رحاله إلى أرض أفغانستان وتعرف في رحلته الشاقة هذه على أسد الله ... وما أدراك ما أسد الله !في أفغانستان و برعاية بعض المؤسسات الإسلامية العربية قرر أبو جعفر الالتحاق بأصعب المعسكرات هناك و التي كانت تعرف بمعسكرات القاعدة لأن من خلال هذه المعسكرات يتم إختيار أعضاء التنظيم (لاحظوا أن هذا قبل عام 1990)التحق بالمعسكر و لم يختصر في حديثه عن نوعية التدريب الذي تلقوه هناك، بل ذكر العلاقة التي كانت بين المجاهدين و بين العرب و الأفغان و المشقة التي كان يعاني منها هؤلاء المجاهدون من خلال تدريبات تهيء الشخص لتحمل الكثير من مشاق الجهاد وتعينه على تعلم استخدام الأسلحة بأنواعها المختلفة.وفي هذه المعسكرات توزع أوراق للتسجيل فيمن يريد الإلتحاق بمنظمة القاعدة ولكن لا تتم موافقة الفرد إلا بعد تمحيص جسدي فكري و أخلاقي. وطبعا يستبعد أصحاب البدع - كما يرى السلفيون - فمثلا من رؤي معه مسبحة لا يتم إختياره ولو كان مشهودا له بأخلاقه و صلابته !انتهى التدريب و بدأ الإستعداد للجهاد الحقيقي، ويختار أبو جعفر الذهاب لقندهار لأنها مشهورة بمعاركها الحامية الوطيس، ومعروفة بصعوبة مراس أهلها القندهاريون والذي ينشأ أبنائها على حمل السلاح منذ نعومة أظافرهم.و يحكي لنا أبو جعفر عن قوة أهلها و فضلهم و بأسهم الذي خبره بنفسه و سمعه من أفواه غيرهم و قرأه في تاريخهم. هم الذين لم تستطع قوة في التاريخ أخضاعهم لسيطرة أجنبية مع قلة عددهم و عتادهم.ومن الطرائف أنه في أوائل أيامه كان يستغرب أنه حين يسمع دوي قصف المروحيات الروسية فإن أهل قندهار يسرعون إلى أسطح بيوتهم - لأن مضادات الطائرات هناك! - ولا تجد هذا إلا في قندهار! و المضحك أنه حين يخطأ الروس التصويب يصرخ القندهاريون "يا حميير ، كيف تخطؤون التصويب!" ويعلق أبو جعفر مستغربا "ولا أدري من الحمار هنا، فلو أن الطائرات أخطأت في المرة الأولى ، لا أعتقد بأنهم سيخطؤون في الثانية!"ويستمر أبو جعفر في سرد المآسي و الجروح و الإنتصارات و الأفراح. كيف تصيب الألغام و تنفجر لا لتقتل و لكن لتعرقل المجاهد ببتر رجله، كيف تصيب الرصاصات الأجساد و الرؤوس و كيف ينتصر المجاهدون فيذوقون حلاوة النصر و كيف يخسرون فيذوقون مرارة الهزيمة و الخسارة و فقدان الأحبة. وفوق هذا يمتعنا في مذكراته بذكر العبر التي يتعلمها سواءا من الأفغان أو الروس أو العرب أو غيرهم.ثم ينهي مذكراته بذكر آخر معاركه وكيف أصابه لغم غادر ليمزق رجله وكيف اختلط لحمه بدمه وكيف أقعد فترة من الزمن حتى يبرأ من سقمه و يقرر من بعدها الرجوع إلى وطنه.ليحمل معه ذكرى و تجربة فريدة من نوعها ولكنها صعبة فأسد الله و غيره من إخوانه الذين تحملوا صعاب البرد و الخوف و الجوع معا لم يرجعوا معه ، بل لم يرجعوا أبدا لأنهم في أعلى عليين ، مع النبيين و الصديقين و الشهداء، ونعم الميتة التي قضوها و نعم الجهاد الذي جاهدوه و نعم الصحبة التي كانوا عليها في دنياهم فلم يثبط بعضهم البعض في اختيار الجهاد على الأولاد و السلاح على النساء و الكهوف على القصور.و كأني بهم يرددون قول الشاعر
سأحمل روحي على راحتي * و ألقي بها في مهاوي الردى
فإما حياة تسر الصديق * وإما ممات يغيض العدى